في مجلس العزاء

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-04-04 11:39:24

في مجلس العزاء


يذكر لي أحدُ الإخوة أن فلبينياً يعمل في إحدى الشركات في السعودية، فتوفي قريبُ زميله في العمل، فذهب ليعزي زميلَه وأهلَه، فدُهش من كثرة الحضور، وقال لزميله: هل كل هؤلاء المعزين أقاربك؟ قال: لا، بل أقاربي لا يمثلون إلا أقلّ من 25% من هذه الأعداد! فقال: والبقية؟ قال: هؤلاء إخواننا في الدين، جاءوا مواسين، ومخففين المصاب بالدعاء والشد من الأزر، فسأل الفلبينيُّ زميلَه عن كيفية الدخول في هذا الدِّين.

التعزيةُ هي صورةٌ من صور الترابط بين أفراد المجتمع المسلم، وكم خفّفتْ من مصابٍ كان وقْعُه على المصاب كبيرًا!

ما أجمل تلك الدعوات التي يقولها المعزّي للمُعَزّى: "إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر، ولتحتسب"([1]) ونحوها من العبارات التي تزيد الإنسانَ من اليقين بالصبر، والتذكير بحقيقةِ المصير، والحثّ على لزوم الاحتساب، الذي يزيد من أجور المصاب.

والتعزية كغيرها..يعتريها بعضُ المنغّصات التي تكّدِّر صفوَها، ويقضي واجبُ النصح التنبيهَ عليها، ومن ذلك:

- من المعلوم أن الجلوس للعزاء من المسائل المختَلَف فيها بين أهل العلم ـ رحمهم الله ـ وليس مرادي ذِكر الخلافِ فيها، بل المقصود التذكير بأنها من مسائل الاجتهاد، فلا ينبغي التثريبُ على مَن أخذ بأحدِ القولين، شريطةَ تجنّب بعض المحاذير الشرعية ـ فيمن اختار القول بالجلوس ـ كصنع أهل الميت الطعامَ للمعزّين، أو الإسراف فيما يقدّم لهم، وكأن الناسَ في عرسٍ لا عزاء!

- التعزيةُ فرصةٌ لتقارب قلوب الأقارب، وتقليص مساحات الجفاء ـ إن وُجِدت ـ فليس من المقبول أن تنقلب هذه المناسبةُ إلى خصوماتٍ أو شقاقٍ مع أهل الميّت بسبب رغبةِ هذا وذاك في تقديم العشاء أو الغداء للمعزيّن وأهل الميت.

- يَحْسُنُ بالمصاب إذا لم يرَ بعضَ من يتوقع حضورَهم أو اتّصالهم مِن أقاربَ أو أصدقاء أو من لك حقٌّ عليهم أو زملاء عمل أن يلتمس العذرَ لهم، فقد يكون الخبر لم يبلغهم، أو مسافرون إلى أماكن بعيدة، أو مرضى لا يستطيعون الحضورَ ولا الاتصال، وكم حملت الأخبارُ مِن أعذارٍ لا تخطر على بالِ كثيرٍ منا!

أتذكّرُ أن أحدَهم عاتبَ شخصاً على غيابه، فقال المعاتَبُ: لقد أجريتُ عمليةً جراحيةً في القلب وأنت لا تَعلم، ولم تتصل بي، ولم أعاتبك! فاعتذر المعاتِبُ بأنه لم يعلم واستحى، فقال له صاحبُه: الناسُ كذلك لهم أعذارٌ قد لا تَبْلُغُكَ، وليس في كل حينٍ يستطيع الإنسانُ ذِكر عُذْره، فما أحسن أن نُوسّع دائرةَ العذرِ فيما بيننا قدْرَ الإمكان!

كما أنه ليس من المناسب أن تَتضاعَف المصيبةُ بحفر أخاديدَ من العتابِ واللومِ بين المصابِ ومَن سبق ذِكرهم، فإن هذا من مداخل الشيطان، ويمكن تجاوز ما قد يقع في النفس بمصارحةِ من يُستَكثر منهم التخلُّف، لكن بعدَ أيامٍ من المصيبة، فإن العاقل مَن التمسَ الأعذار، فإن لم يجد فليقل: لعل لهم عذرًا خَفِي عليّ.

- وفي محيط النساء، فإن بعضَ الأخوات حين تحضَر للعزاء لا تحقِّق المقصود من العزاء ـ وهو المواساة والتخفيف ـ بل تُخالِفه، فتكون بلسانِ حالها ومقالها مهيّجةً على تجديد الأحزان، وتعميقِ المصاب، ولمن تَعرف مِن نفسها أنها من هذا النوع الذي لا يَحتمل المصابَ فيمكنها الاعتياض عن ذلك باتصالٍ، أو بنقلِ المواساة برسالةٍ بالجوال، أو بغير ذلك من الوسائل المتاحة.

- قد يحصل أن بعضَ الناس لا تتيسر له التعزيةُ في وقتها المعتاد، فإذا ذهبتْ، وبرَدَت حرارتُها على قلوبِ أهل المصاب، فلا يَحسن التعزيةُ هنا بل لا تُشرع، لأن مقصدَ التعزيةِ هنا انتهى، ومِن جميل ما يُذكر ههنا: أن رجلاً لقي آخر قدأصيب بمصيبةٍ، فأبطأ عن تعزيته، فقال: لولا أن تجديد التعزية يجدد جزعاً في المصيبة، لعزيناك عمن مضى!([2])

وختاماً .. فما أحسن ما قاله بعض السلف معزيًا رجلا مات أبوه: ياهذا، إن كانت مصيبتك في والدك أحدثتْ لك عِظةً في نفسك، فنِعم المصيبة مصيبتك؛ وإلافمصيبتك بنفسك أعظم من مصيبتك بأبيك([3]).

 



([1]) البخاري ح(1284)، مسلم ح(923).

([2]) التعازي لأبي الحسن المدائني (ص: 98).

([3]) التعازي لأبي الحسن المدائني (ص: 36).

4191 زائر
1 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات