في غرفة تغسيل الموتى

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-03-21 16:45:18

في غرفة تغسيل الموتى

تحدثتُ في المقالِ السابق عن بعض مشاهداتي في غرفة العناية المركزة..التي ترددتُ إليها بضعةَ أيام إبان مرض شقيقي رحمه الله، ثم انتقلنا بعد وفاته إلى الغرفة الأخرى ألا وهي: غرفة تغسيل الموتى، أو كما يحلو للبعض تسميتها: غرفة إكرام الموتى.

تلك الغرفة التي تباعدك من الدنيا وتدنيك من الدار الآخرة، وتَعِظك بصمتها العجيب..بل كل ما فيها يَعِظ! أكفانها..أعواد الجنازة فيها..أدوات تجهيز الميّت..تتوارد على ذهنك أسئلةٌ كثيرةٌ وأنت تقلِّب طرفَك في سقفها وجدرانها..يا تُرى كم جلس على هذه الأعواد مِن ميّت؟ مَنْ آخرُ شخصِ غُسّل عليها؟ ومَنْ الميتُ القادم الذي ينتظر دورَه؟ أهو طفلٌ أم شابٌ أم كهلٌ أم شيخ كبير؟ أهو امرأةٌ أم رجل؟ هل سيكون القادم شخصًا قد سبق موتَه مرضٌ ينبّهه ويُوقظه، ويجعل له فرصةً للمراجعة؟ أم هو شخصٌ مات فجأةً دون مقدمات؟ سبحان مَن يَعلم!

حين تُغسّل هذا الميّت يلوح لك كمالٌ مِن كمالات الله، فتردِّد بلسانك وقلبك: سبحان الحيّ الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون!

وحين تغسّله، وتنظر في عناية الشرع المطهَّر بتنظيف الميّت، والعناية بتطهيره قبل دفنه، والتشديد على سَتر عورته، وتطييبه؛ تحمدُ الله على الهداية إلى هذه الشريعة المطَهَّرَةَ المطهِّرَةِ، التي تتفق مع الفطرة، وتُوجب العنايةَ بهذا الإنسان لا أقول منذ ولادته؛ بل قبل ولادته حتى يُوارَى في الثرى.

وحين تُغسّل هذا الميت تتذكر أنه كما قدِم إلى هذه الدنيا عاريًا، لا يستطيع لنفسه ضرًا ولا نفعًا؛ فهو كذلك حين يُغسّل، مهما كانت قوّته حالَ الحياة..يديره المغسّلون، ويقلّبونه ويحرّكونه، لكنه هذه المرّة جسدٌ لا روح فيه، فأين المُعتبر؟

ولئن كان هذا الميّتُ قدِم الدنيا عارياً فسيغادرها كذلك إلا من ثلاثة أثواب أو خمسة، لا أكمام لها ولا أزرار، ولا سراويل ولا قُمص!

ولو أنّ تاجرًا من التجار أوصى أن تكون الثيابُ التي يكفّن فيها مِن أغلى أنواع الأقمشة؛ لم ينفعه ذلك بشيء، فالقدوم على الله لا ينفع معه إلا ما قاله الله: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم﴾[الشعراء: 88، 89].

وحين تغسّلُ الميّت، فإنك تزداد يقينًا أن الموت هو الكأسُ التي لا بدّ مِن شربها، والبابُ الذي لا مناصَ من دخوله، فليت شعري كيف سيكون القدوم على الله منه؟ هل سنقدُم عليه وقد رضيَ عنّا أم لا؟ هل نقْدُم عليه خفيفةً ظهورُنا من الذنوب والآثام؟ أم سنقْدُم وقد تحمّلنا أوزاراً سنندم عليها لحظةَ خروجنا من قبورنا، يوم يقوم الناسُ لرب العالمين، ويوم يقال: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾[الأنعام: 94].

إن هذه الغرفة لتنادي المتقاطعين: تصالحوا قبل هذه اللحظة!

وتقول لأبناء الستين والسبعين..: ها قد وصلتم إلى معترك المنايا، فبماذا استعددتم لهذا المصرع؟

وتُنادي الشباب المفرّطين الذين يؤمّلون الستين والسبعين..: اعتبروا! فكم ركِب على أعواد الجنازة قبلكم من شباب! هذا بسكتةٍ، وذاك بحادث.

إن من رحمة الله بعباده أن جعل النسيانَ للمُصَاب سبباً للسَّلوة، لكن الذي لا يصحّ: أن ينقلب هذا النسيانُ إلى غفلةٍ تجعل الإنسانَ يعاوِد برنامجَ التقصير والغفلة عن المصير، بل العاقل يستفيد من هذه المواقف التي تمرّ به لتكون سبباً في إصلاح آخرته، وترقيعِ ما انفتق من ثياب الصلاح التي تخرّقت بذنوبٍ بينه وبين الله، أو بين عباده.

 

  • الكلمات الدالة
12233 زائر
4 | 1
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات