ذكرونا بمثل هؤلاء الكلمات
جرت العادةُ في رحلة الحج أن يتعاهد بعضُ طلاب العلم إخوانَهم الحجاجَ بكلماتٍ وعظية تذكيرية، والملاحَظ أن عدداً غير قليلٍ من هذه الكلمات تنحو منحى الوعظ بمعناه المشهور والخاص، إما ترغيباً بجنة أو ترهيباً من نار، أو ما يَسبِق ذلك من حديثٍ عن الحياة البرزخية، وهي موضوعاتٌ مهمة بلا ريب، وينبغي تَعاهُدُ الناسِ بها في رحلة الحج وغيرها، لكن ألا توافقني ـ أخي القارئ ـ أن ثمةَ موضوعات هي من صميم ما تُوعظُ به القلوبُ، بل هي من أكبر وأعظم الموضوعات التي أبْدَا الرسلُ وأعادوا فيها كما يخبرنا القرآن الكريم، وكما صحّ عنهم، وعلى رأسهم نبينا وسيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟
والذي حملني على هذا التساؤل أنني في رحلة الحج هذا العام 1436هـ لفت نظري حديثُ من تشرفتُ برفقتهم في كلماتهم التي يتعاهدون بها أصحابَهم أنها جميعاً تدور حولَ القضايا الكبرى والأساسية، التي عليها مدارُ صلاحِ القلب، فأحدهم وعَظَنا عن "التوكل" وحاجة العبد له في كل حال، وخصوصاً وهو يمضي في هذه المناسك، فلربما دفعه ما يجده من رغبة في الطاعة إلى نسيانِ التوكلِ وطلبِ الحول والقوة من واهِبِها سبحانه.
وآخَرُ وعظَنَا موعظةً بلغية عن "الصدق" وحقيقته، وعن شيءٍ من معاني الصدّيقيَّة، وأنّ تفاوتَ منازلِ العباد عند الله بمقدار ما لديهم من الصدق، في حديثٍ إيماني ماتع.
وثالث وعَظَنا عن معاني "الحمْد" وبعضِ فضائله التي قد يغفل عنها الإنسانُ مع يُسرها وسهولتها، واستحقاقِ الله تعالى لهذا الأمر في كل لحظة، في إشارات بديعةٍ إلى حاجةِ العبد لحمد ربّه، والثناء عليه، وأثر ذلك على قلبه وانشراح صدره، وراحة باله.
ورابعٌ وعَظَنا في موضوع "ذِكر الله" وحضوره في مناسك الحجّ بالذات، وأثرِ هذا الذكر على إخباتِ العبدِ وانكسارِه إذا كان ذِكراً اجتمع عليه القلبُ واللسانُ، وهكذا استمرت بقيةُ الكلمات والمواعظ، التي كان لها وقْعٌ حسن على السامعين.
إن مِن طلاب العلم - بلْه عامّة الناس - مَن يقصّر في التذكير بهذه الموضوعات الأصيلة والمهمة! إما بسبب الغفلة، أو بسبب ظنّه أنها من الأمور الواضحة البيّنة للناس؛ فلا يحتاجون إلى التنبيه عليها أو التذكير بها! والواقعُ أن هذا ليس بدقيق، فالواقع يشهد بقلّة طرْقِ هذه الموضوعات مقارنةً بما أشرتُ إليه، ومَنْ تأمل كتابَ الله وسنةَ نبيه صلى الله عليه وسلم فسيجد الحفاوةَ بهذه المعاني أكثرَ مما سواها؛ ولعل السرّ في ذلك: أن القلبَ إذا تأثر وصلحَ بهذا النوع من الوعظ واستقام؛ صار تعبّده لله، وحبّه لمولاه، وخوفُه منه مبنياً على علمٍ وفهم لأسماء الله وصفاته، وما ينبغي له جل جلاله وتقدست أسماؤه، وليس تأثّره لمجرد موعظة عابرةٍ تذرف معها العين، ويَوْجل منها القلب، بسبب قوة أسلوب الواعظ، أو لغير ذلك الأسباب.
تأمل في وعظِ نوحٍ قَوْمَه بتوقير الله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾[نوح: 13، 14]، ولما وعظ شعيب قومه ونوّع عليهم الخطاب، قالوا له: ﴿يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ فأجابهم إجابة العبد المعظّم لمولاه وخالقه: ﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾[هود: 91، 92]، وأمثال هذه المواعظ العظيمة، التي تسكب في القلبِ الإجلالَ لذي العظمة والجلال.
إنها دعوةُ لنفسي ولإخواني للنظر في أولويات موضوعات الوعظ التي ينبغي طرقها، وأن لا ننسى أن المقصد الأعظم من بعثة الرسل وإنزال الكتب، هو تعبيد هذه القلوب لرب العالمين، وأن أصح وأعظم الطرق للوصول إلى ذلك هو سلوك طريقة الأنبياء والرسل، بطرق هذه الموضوعات، فالقلوب إذا صلحت بهذه المعاني، صار وصولها إلى الله أقرب وأقوى، والله المستعان.