كسوف الأخلاق
تَذكرُ بعضُ كتبِ الأدب أن الخليفة العباسي المأمون كان في مجلسه، فنادى بالخادم: يا غلام، فلم يجبه أحد، ثم نادى ثانيًا وصاح يا غلام، فدخل غلام تركي وهو يقول: ما ينبغي للغلام أن يأكل ويشرب؟! كلما خرجنا من عندك تصيح: يا غلام! يا غلام! إلى كم يا غلام! فنكس المأمون رأسه طويلا، يقول الراوي: فما شككتُ أنه يأمرني بضرب عنقه، ثم نظر إليّ فقال:
يا عبد الله! إن الرجل إذا حسُنتْ أخلاقُه ساءت أخلاقُ خدَمه، وإذا ساءت أخلاقُه حسنت أخلاقُ خدمه، وإنا لا نستطيع أن نُسيء أخلاقَنا لنُحسِن أخلاقَ خدَمِنا.([1])
والمأمون بهذه الإجابة يريد أن يوصل رسالةً مضمونها: أنني لستُ مستعداً أن أتنازل عن مبادئي وقِيَمي لأن الطرف الآخر أساءَ أخلاقه! أو بعبارة أخرى: أعاملُ الناس بأخلاقي لا بأخلاقهم، وإلا لهويتُ إلى دَرَكٍ بعيد.
هذا النوع من الناس، الذي يُصاب بـ"كسوف أخلاقي" جزئيٍّ أو كليٍّ، لا ينفك الإنسان من التعامل معهم، إنْ اختياراً أو اضطراراً، وقد يجد منهم ما يثير الحفيظة، ويُخْرجُ عن الطور، فهو هنا بحاجة لضبط نفسه، والحفاظِ على المبدأ الذي هو جزء من شخصيته وسلوكه.
يقول أحدُ الإخوة: كان عندي سائق، وتعاملتُ معه بما أعتقده من مبادئ وقناعات راسخة يمليها عليّ ديني أولاً، ثم ما أعلمه من سيرة قدوتي الأولى صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الخدم وأمثالهم؛ فوجدتُ منه جحوداً ونكراناً للجميل بعد مدةٍ من الزمن، فلامني بعضُ الأصدقاء على إحسان الأخلاق معه، وأن هذا النوع من الناس لا يَصلح معه الفضل، بل الذي يناسبهم العدلُ والحزم، خاصةً في ظل تواصل السائقين والخدم وأضرابهم عبر وسائل التواصل، ونقلهم لتجاربِ بعضهم البعض في أساليب الابتزاز المختلفة لمكفوليهم، وممارسة ما يسمى بـ(ليّ الذراع)؛ ليضطر الكفيلُ للاستجابة لمطالب رفع الراتب، وغيرها من المطالب المعروفة.
وفي المقابل، وجد صاحبُنا تأييداً من بعض أصدقائه، وقالوا له: لا تتنازل عن مبادئك لأجل هذا الكسوف الأخلاقي من قِبَل هذا العامل أو السائق، ولكن عليك بالاعتدال وعدم الإفراط.
فأيُّ الفريقين أولى بالصواب؟!
إن المتأمل للسيرة النبوية الشريفة، والتي تنوعت فيها المواقفُ النبوية، مع العدوّ والصديق، والصغير والكبير، والموافِق والمخالف؛ يجد أن الهدي العام الذي سلكه صلى الله عليه وسلم عموماً هو: امتثال ذلك التوجيه الرباني: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين﴾[الأعراف: 199]، وأن ما سوى ذلك هو حالات استثنائية، وما خبَرُ فتح مكة إلا أكبر شاهد على ذلك.
ويمكن التأكيد على ما ذكره الصديق المؤيِّد بأنه قد لا تحْسُن المبالغة في الإكرام الذي لم يَعتدْ عليه هذا النوعُ من الناس، مما قد يَشْعرُ معه هذا الخادمُ أو السائق أنه حقٌّ واجبٌ متعيّن على الطرَف المقابل، ثم يبدأ معه برفع سقف المطالب التي لا تُطاق، مستغلاً هذا الواقع الذي صار الحصول فيه على خادمٍ أو سائق مناسِبَين من الأمور الشاقة والمرهِقة.
وبكل حال، فلكلّ حالةٍ لبُوسُها، والعاقلُ مَن قدّر الأنسب والأوفق في الأسلوب، مع المحافظة على أدنى درجات التوزان الخُلُقي، وأن لا يَحمِلنا نَزَقُ هذا النوع مِن لؤماءِ الأخلاق أن نترك مبادِئَنا الراسخة.