رمضان بين تزكية المال وتزكية النفوس

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2018-06-04 07:48:46

رمضان بين تزكية المال وتزكية النفوس([1])

الحمد لله الَّذِي يمْحو الزَّلَلَ ويصْفح، ويغفر الخَطلَ ويسْمح، كلُّ منْ لاذَ بِهِ أفْلَح، وكلُّ من عَامَله يَرْبح، وأشْهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله الْغَنِيُّ الجوادُ مَنَّ بالعطاءِ الواسعِ وأفْسَح، وأشْهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي جاد لله بِنَفْسِهِ ومالِه وأبانَ الحَقَّ وأوْضحَ، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسانٍ وسلَّم تسليماً، أما بعد([2]):

فأوصيكم ونفسي ـ أيها الناس ـ بتقوى الله عز وجل.

أيها المسلمون: إذا أردنا أن نتعرف على مواطن اختبار الإيمان، وصدق الديانة، فإن لها ميادين من أعظمها: بذل المحبوب للأحبّ، وهكذا هم أولئك الذين خلّصهم الله تعالى من شح نفوسهم فأفلحوا، ورغبوا فيما عند الله فأرخصوا ما بذلوا وأنفقوا، قومٌ علموا أن الله استخلفهم على أمانةٍ فحفظوا ما استُحفظوا.

إنهم المزكّون أموالَهم، الباذلون لها بطيب نفس وشكر لواهب ذلك المال، أولئك الذين حرصوا على هذه الشعيرة، واعتنوا بها، وعرفوا أنها ثالث أركان دينهم، وأنها ـ لعظيم منزلتها عنده ـ افترضها على سائر الأمم قبلنا.

قرأَ هؤلاء الباذلون كتابَ ربهم فوجدوا أن من أبرز صفات المؤمنين، وأخصِّ أخلاقهم التي وُعِدوا عليها أرفع الدرجات: الإنفاقُ ابتغاء وجه الله.

إنهم المنفقون أموالَهم عن طيب نفسٍ منهم، وشكرٍ لواهب هذه النعمة.. الذين ينتظرون موعود الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، أما موعود ربهم فقد سمعوه في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا﴾[البقرة: 268]، ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾[سبأ: 39]، وأما موعود رسولِه صلى الله عليه وسلم فهو قوله ـ فيما رواه مسلم ـ "ما نقصت صدقةٌ من مال"([3]).

وفي الوقت نفسه، بذلوها حذراً من مصير المانعين، الذين قال الله فيهم: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾[التوبة: 34، 35].

وسمِعوا وعيدَ رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته؛ مُثّل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يطوّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ ثم يقول: أنا مالك، أنا كنـزك، ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[آل عمران: 180]"([4]).

فلله درّ هؤلاء الباذلين الذين شرح اللهُ صدورَهم للإحسان إلى إخوانهم المسلمين، ومواساةِ المحتاج منهم، بلا مِنّة ولا أذية، بل بنفس رضية، تعلم أن هذا المال هِبة ربانية، ومِنحة إلهية، وأن توفيقَ الله لهم لبذلها نعمةٌ تستحق شكرَ ربِّ البرية.

لقد استشعر هؤلاء عبوديةَ الله تعالى بهذا المال، فلم يمنعوه حقَّه، ولم يجحدوا فضلَ واهبِه، وكأني بهم يقولون: يا ربنا! أعطيتنا الكثير ولم تفرض علينا إلا القليل؛ فلك الحمد، المالُ مالك، والخير خيرك، وإخراجنا لزكاة أموالنا هو من عظيم جودك علينا وفضلِك.

فهنيئا لكم أيها الباذلون المنفقون! هنيئًا لكم سلامتَكم من شح نفوسكم، ووسوسة عدوكم الذي يَعِدكم الفقرَ والفحشاء، ومعرفةَ حقيقة ما استخلفتم عليه، وأدائكم جزءا من شكر هذه النعمة.

وهنيئا لكم رضا ربكم عنكم، ومضاعفته لثوابكم.

ويكفيكم شرفاً ـ معشر الباذلين ـ دعوةُ الملائكة لكم كل صباح: "اللهم أعط منفقًا خلَفًا"([5])، وليس هذا فحسب؛ بل انتظروا ما أعد الله لكم من الثواب الجزيل، والأجر الكبير.

ألم تعلموا أن للمتصدقين بابًا خاصاً يُدعون منه يوم القيامة؟([6])

ألم يبلغكم أن نبيَّكم صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ امرئ في ظل صدقته يوم القيامة، حتى يُقضى بين العباد"([7])؟!

أيها المنفقون الباذلون: ألا ترضون أن يبقى المانعون لحق الله في هذا المال بحسرتهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وترجعون أنتم بالبركة في الأموال، وطيبِ النفس، وأنواع البركات، ودخول الجنات؟!

أَلا ما أعظمَ مِنّةَ اللهِ على عبده حينما يُلحقه بركب المنفقين والمتصدقين! وما أعظم فضلَ الله على المسلم حينما يُكرمه بتفقد الفقراء والمعسرين، فيكفكفُ دمعة، أويسدَّ جوعة، أويرويَ ظمأة!

أيها المسلمون: ما أجملَ أن يكون عمل المتصدقين والمزكين مكسوّاً بالفقه في الدين، فيتعرف المزكي على أهل الزكاة الذين حدّدهم اللهُ في كتابه بقوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة: ]، ولا يحابي بها قريباً، ويجتهد في السؤال عن أمواله، كيف تزُكى؟ ومتى؟ ومَن المستحقون لها؟ فإن العمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصاً لله، صواباً على سنة رسول الله  صلى الله عليه وسلم.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة ،،،


الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:

فلئن كان للمال زكاةٌ؛ فللنفس والقلب زكاةٌ، بل لا فلاح لها إلا بذلك: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾[الشمس: 9، 10]، وإذا كان شهرُ رمضان شهرٌ يحرص فيه الأغنياءُ على زكاة أموالهم؛ فإن الحرص على زكاة النفوس أوجب وأشمل، وما زَكَتِ النفوس، ولا صلحت القلوب بمثل كلام علاّم الغيوب!

أيها الأحبة.. لو افترضنا أن كل واحدٍ منا يقرأ جزءاً واحداً فقط - منذ دخل الشهر - فهذا يعني أنه مرّ بنحو من خمسين نداءٍ من الله له، كلها يناديه ربُّه فيها فيقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فضلاً عن مئات الأوامر والنواهي التي مرّت به في السبع الطوال! فأين أثرُ هذا كلّه على زكاة نفوسنا؟

أمَا والله لو صحّت القلوب، وتلقّت رسائلَ الرب جلّ وعلا بقلب مفتوح؛ لتغيّرت مع أول ليلةٍ منه، والله المستعان!

وإذا أردْتَ أن تعرف أأنت ممن تأثر بالقرآن أم لا؛ فانظر إلى جوارحك حين دخل رمضان، فهل حفظتَ الرأس وما وعى؟ والبطن وما حوى؟ وهل أمسكت لسانَك؟ غضضتَ بصرك؟ وتركتَ مجالس اللهو وتضييع الأوقات؟ في سلسلة من الأسئلة تلتقي عند قوله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾[القيامة: 14].

إننا ـ يا عباد الله ـ نسمع في صلاة التراويح كلاماً لا يشبهه كلام.. نسمع كلاماً لو نزل على جبل صلد لتصدع من خشية الله! ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾[الرعد: 31]! فأين قلوبنا منه؟

ولو أنّ كلّ واحد منا أخذ على نفسه عهداً - قبل أن يفتح صفحة المصحف، أو وهو ذاهب إلى صلاة التراويح - أن ينفذ أيّ أمر يمر به ما استطاع، وأن يترك كلّ نهي فوراً ودون تردد، فإني أقسم بالذي أَنزل هذا القرآن على قلب محمد  صلى الله عليه وسلم أن نعيش حياةً أخرى.

اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم آت نفوسنا تقواها، زكّها أنت خيرُ مَن زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها.



([1]) ألقيت في 9/9/1436هـ.

([2]) ينظر: مجالس شهر رمضان لشيخنا ابن عثيمين. المجلس السادس عشر.

 ([3])صحيح مسلم ح(2588).

 ([4])صحيح البخاري ح(1403)، مسلم ح(988).

([5]) صحيح البخاري ح(1442)، مسلم ح(1010).

([6]) كما ثبت في الصحيحين البخاري ح(1897)، ومسلم ح(1027) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([7]) رواه ابن حبان ح(3310)، والحاكم ح(1517) وصححاه من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.

  • الكلمات الدالة
5791 زائر
1 | 0
المقال السابق
المقال التالى

روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات