تعلمت من ابن عثيمين(4)

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-03-18 14:57:30

تعلمت من ابن عثيمين(4)

المعْلمُ الرابع([1]): حبّه لنشر العلم، واغتنام الفرص لتبيلغ الشريعة:

كان يمرّ بي في بعض التراجم في الثناء على أحد العلماء: "أن أوقاته معمورةٌ ببث العلم"، أو "ليس له همّ إلا في نشر العلم"، ونحو هذه العبارات، التي رأيتها عياناً في حياة شيخنا ـ رحمه الله ـ.

لقد كان حبّ العلم وتبليغُه يسري في عروقه، ولا تحين فرصةٌ إلا ويهتبلها في نشره، مع التزامٍ قوي بالوقت الذي خصّصه للناس في الإجابة على أسئلتهم في الهاتف.

ومن صور هذا الحب لنشر العلم: أنه كان إذا سافر من بلده عنيزة يضع "المجيب الآلي" الذي يرد على الاتصالات ـ وذلك قبل استعمال الجوالات ـ، ويبيّن رقم الاتصال الجديد في المنطقة التي ذهب إليها، سواء في مكة أم الطائف أم الرياض، مع أنه كان يسعه الاكتفاء بما يتلقاه من أسئلة الناس واستفتاءاتهم في تلك المناطق التي يسافر إليها، لكنها الدِّقة والالتزام، والشعور بمهمة البلاغ عن الله ورسوله.

وأتذكر مرةً أنه زاره بعضُ القضاة في إحدى زياراته للرياض ـ وكنتُ شاهداً لهذا الموقف في منزل أخيه الشيخ عبدالرحمن بن صالح العثيمين ـ فطلبوا منه أن يخصِّص كل الوقت لهم ـ أي وقت العصر ـ، وكان شيخنا قد أحال المتصلين على هاتفه على ذلك الوقت الذي زاره فيه القضاة ـ فقال: لا أستطيع ذلك، وقد أحلتُ الناس على هذا الوقت، ولكن لكم سؤال وللمتصلين سؤال. فعجبتُ من هذه الدقّة، والحرص على الالتزام بما سجّله ووعد به.

وكان من عادته إذا جلس في مجلس عام، أن يطلب من أحد الحضور ـ وخاصة من صغار السنّ ـ أن يقرأ القرآن، ثم يعلّق على الآيات ثم يستقبل الأسئلة.

ومن أشدّ المواقف تأثيراً ـ والتي شاهدها الملايين من الناس وسمعوها ـ تلكم الأيام الأخيرة التي درّس فيها في المسجد الحرام في رمضان عام 1421هـ، والتي بلغ فيها المرضُ والألم من جسده مبلغه، وكان يؤدي الدروس بصعوبة بالغة، وكان الأطباء يؤكدون على أهمية راحته، فيخبرهم أن راحته في التدريس! بل حدّث أحدُ أولاده أنهم ذهبوا به مرةً في صباح أحد أيام العشر إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة بسبب تردّي صحته، فلما كشفوا عليه، طَلبَ الرجوعَ به إلى مكّة، فوافق الفريق الطبي بعد إلحاح وضغط من شيخنا ـ رحمه الله ـ؛ كل هذا كي يرجع إلى مكة ليلقي درسه لذلك اليوم.

لقد كانت هذه المواقف ـ وأمثالها كثير ـ تعبّر أبلغ التعبير عن هذه الحال التي كان عليها، يسوقه -بالإضافة إلى حب نشر العلم- الخوف من معرّة كتْمه، وهو الذي صرّح بذلك مراراً، ومن ذلك قوله: "والله نخشى من الفتيا، ولولا أن الإنسان يخشى من كتمان العلم، أو أن السائل يذهب إلى إنسان جاهل ويفتيه لكان الإنسان يتوقف عن الفتيا ليسلم، لكن من استُفتي وعنده علم فإن عدم إقدامه على الفتيا ليس بسلامة بل هو عطب"([2]).

ولقد رأيتُ أثر هذا البذل والعطاء المتدفق على سلوك بعض طلابه، الذين تصدّروا بعد سنوات لنفع الناس وإفتائهم، وتدريس العلوم الشرعية، فلقد رأى الناسُ منهم بذلاً مشهوداً للعلم في كل الوسائل المتاحة، سواء في المساجد أم في الفضائيات أم في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، فبارك الله فيهم، ورحم الله شيخنا، وجزاه عنا خير الجزاء،  وللحديث صلةٌ إن شاء الله.



([1]) أشرتُ في الجزء الأول والثاني والثالث من هذه السلسلة إلى ثلاثة من معالم التميز في شخصية شيخنا ـ رحمه الله ـ وهي: "وضوح الهدف" ، "الثبات على المنهج والهدف الذي رسمه لنفسه"، و"العناية بالقرآن حفظاً وفهماً وعملاً"، وأتابع في هذا المقال ذِكر بعض تلكم المعالم.

([2]) دروس الحرم المدني (4/4).

  • الكلمات الدالة
10590 زائر
0 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات