تعلمت من ابن عثيمين (1)

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-03-18 10:27:46

تعلمت من ابن عثيمين (1)

الذين منّ الله عليهم بالجلوس عند شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ) فترةً من الزمن وإن قلّت، أو استمعوا إلى دروسه المسجّلة، أدركوا أنه لم يكن مجرد عالمٍ يلقي دروسه ثم ينصرف إلى حيث يبدأ الدرس التالي، بل كان ـ رحمه الله ـ أنموذجاً للعالم الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، ويربي بفعله قبل قوله.

وهذا العلَمُ الماجدُ كُتِبَ عنه الكثير شعراً ونثراً، لكن الكتابة التي تُعْنى بإبراز معالم القدوة والتأسي به لا تزال قليلة مقارنة بما كتب في الجوانب الأخرى، ومقارنة بمنزلته العلمية، ومكانته في الأمّة.

ولا ينبغي في ترجمة مثله أن تُختزل سيرته فيما يشترك معه كل من له أدنى مشاركة في التعليم -من ذكر المولد والوفاة والأشياخ والتلاميذ والمصنفات- بل ينبغي تسليط الضوء على الجوانب الربانية ومواضع القدوة في شخصيته، فهي الأهم.

وأنا حين أكتب فلا أزعم أنني من أكثر الناس قرباً منه، أو جلوساً بين يديه، ولا بالذي يستطيع كتم آثار العاطفة والمحبة التي تجذّرت عروقها فيّ، وكان يسقيها بماء النصح والتوجيه، والرعايةِ الأبوية لتلميذه الصغير، من خلال علاقةٍ امتدت أكثر من عشر سنوات، كلا.. لكنني أظنّ أن تلك السنوات أضحتْ مشجعةً على الكتابة عن بعض تلك المعالم المؤثرة، والتي يلمسها كلّ من عاشره وتتلمذ له، ولحظَ مفاتيح التميز في شخصيته، لعل الله تعالى أن ينفع بها، وهي إشارات فحسب، إذْ التفصيل والبسط لا تناسبه أمثال هذه المقالات.

ولعلي ألخص هذه الوقفات في المعالم التالية:

المعْلمُ الأول: وضوح الهدف:

فلقد كان الهدف الأكبر عند شيخنا ـ رحمه الله ـ هو طلبُ العلم وتعليمُه، واضحاً في نفسه من بواكير شبابه، ظهر ذلك في مواقف كثيرة، لعل من أشهرها:  استعفاؤه من القضاء حين عُرِضَ عليه من قِبَلِ مفتي الديار السعودية في وقته الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1389هـ) ـ رحمه الله ـ  وألحّ على شيخنا في ذلك، بل أصدر قراره بتعيينه رئيساً للمحكمة الشرعية بالأحساء، فطلب منه الإعفاء، وبعد مراجعات واتصالات سَمح المفتي باعفائه من منصب القضاء.

ولا أحسب هذا الموقف من شيخنا إلا لأنه يرى أن للقضاء ـ مع شرف مكانته ـ تبِعةً قد تشغله عن هدفه الذي رسمه لنفسه ـ وهو تعليم العلم الذي بذل جهده في تحصيله ـ والعلم يحتاج تفرغاً كثيراً، وصفاء في الذهن، لا يتأتّى في الغالب للمنشغل بالقضاء.

ومن ذلك: أنه لما ازدادت شهرته -خصوصاً بعد سنة 1400هـ- وكثر قاصدوه من الآفاق، تخفف من إلقاء المحاضرات العامة جداً، وركّز على دروسه العلمية في الجامع، وصار لا يشارك إلا في حضور مناسبات تكريم حفاظ القرآن في منطقة القصيم فقط، اللهم إلا إن وافق ما سبق وجوده في اجتماعات هيئة كبار العلماء في الطائف والرياض، أو وافق وجوده في مكة، كل ذلك انجماعاً منه على دروسه، وتركيزاً على تحقيق هدفه الذي عاش من أجله.

وثمرةُ هذا المعْلم ظاهرةٌ جلية في حياته، والتي تمثلت في أكثر من 5000 ساعة صوتية ـ فضلاً عما لم يُسجل من قبل أو ضاع ـ، استثمرت لاحقاً في تزويد قناة فضائية حملت اسمه ـ رحمه الله ـ، بالإضافة إلى انتفاع عدد كبير من طلاب العلم ـ من مختلف بلدان العالم ـ الذين تخرّجوا به، ونفع الله بكثير منهم.

إن هذا المعْلم في شخصية شيخنا ـ رحمه الله ـ قد يغيب استحضارُه عن بعض طلاب العلم وهو في بدايات حياته ونشاطه، فقد يبدأ في كلية شرعية، بل قد يتخرج منها، والهدف عنده غير واضح، فتذهب عليه زهرةُ عمره في التنقل بين مجالاتٍ خيرية متنوعة، وهي وإن كانت فاضلة؛ إلا أنها لا تزال تَنْحتُ من شجرة زمانه، وتَذْهَبُ أيامه وهو لم يبرز في سبيل من هذه السبل، مع قدرته على التميّز.

أعرفُ أحدَ طلبة العلم ـ وهو من طلاب شيخنا ـ ممن حدّد هدفه بطلب العلم، عرَضَتْ عليه عددٌ من الجهات الخيرية ـ إغاثية، وتعليمٍ للقرآن، وأمثالها ـ عرضت عليه الانضمام لها، فاعتذر، فسُئل عن السبب؟ فقال: حددتُ هدفي مبكراً، وليس لدي من الوقت والقدرات ما يمكنني معه القيام بها جميعاً، فاخترتُ ما حُبّب لي من طلب العلم، والرغبة في تعليمه ونشره، فتحقق له ذلك فيما أحسب.

والعبرة من هذا المعْلَم في شخصية شيخنا ـ رحمه الله ـ :

أن يحدد الإنسانُ هدفه مبكراً، وينظر في المجالِ الذي يُتقنه ويبدعُ فيه، وليصحح النية في نفع نفسه وأمته، وليبشر بالتوفيق، وصدق الله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُم} [الأعراف: 160].

  • الكلمات الدالة
9369 زائر
6 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات