البيعة الشرعية .. نعمة وضمان

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-03-13 07:17:46

البيعة الشرعية .. نعمة وضمان([1])

إن الحمد لله ...، أما بعد:

فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فإنها أمانُ الخائفين، وحرز المصابين، وسلوةُ المفجوعين: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[لقمان: 33].

أيها المسلمون:

ماذا أقول لزائر مهما نأى
 

عنا, فإن خياله يغشانا
  

لو أن أبراج الحراسة شيدت
 

من حولنا, لاجتازها وأتانا
  

لغة المماتِ فصيحةٌ، لكنما
 

لهْو الحياةِ يغلقُ الآذانا
  

ميلادنا باب الدخول، وموتُنا
 

باب الخروج بنا إلى أُخرانا
  

للموتُ عينٌ ـ يا محدثتي ـ ترى
 

ما لا يراه الناسُ من أخرانا
  

هو لا يفرق بين شيخٍ أو فتى
 

أبداً, و لا يتخيرُ الألوانا
  

فكبيرنا كصغيرنا, وغنينا

كفقيرنا, و الموتُ لا ينسانا
  

ما بين جملة "يحفظ الله الفتى"
 

فينا و"يرحمه" ترى البرهانا
  

مات ابن آدم.. يالها من عبرة!
 

تحيي القلوب, وتوقظ الأذهانا
  

مات ابنُ آدم فالحياة قصيرة
 

تطوي بكف رحيلها الأزمانا
  

إنها الحقيقة الحاضرة الغائبة: أنّ الموت في هذه الدنيا نهاية كل حي، وختام كل شيء: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾[الزمر: 30]، هذه الحقيقة، وإليها يصير الخليقة، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[الملك: 2] فسبحان من كتب الفناء على الخلق، واستأثر بالحياة والقيّومية على خلقه، وسبحان مَنْ لا يزول ملكه.

معاشر المسلمين: لئن كانت مصيبةُ الموت عموماً كبيرة، فإن الرزِيّة تكون أعظم وقْعًا، حينما تكون بفَقْد ولي أمر المسلمين، الذي يحفظُ الله بإمامته واجتماع الناس على ولايته مصالحَ البلادِ والعباد، وتقام الحدود، ويَستتب الأمن، وغير ذلك من المصالح التي يدركها العاقل بسهولة، ويراها الإنسان في أحوال الدول التي اضطربتْ فيها أمور الحكم.

أيها الإخوة: ومع عظيم المصاب، إلا أننا أُمرنا عند حلول المصاب بعبادة قولية وقلبية، أما القولية فبالاسترجاع: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وأما العبادة القلبية فتلقّي المصيبة بالصبر، والرضا والتسليم، فلا نقول إلا ما يرضي الرب جل وعلا.

ومما يخفف المصاب ـ بحمد الله ـ هذا الانتقال السريع والسلس لقيادة البلاد، لولي العهد وفقه الله، الذي صار من اليوم ولياً للأمر، له حق السمع والطاعة بالمعروف، وعليه واجباته التي نسأل الله أن يعينه على أدائها.

إن هذا الانتقال المتميز بسرعته وهدوئه لنعمة كبرى، تستحق الشكر لله تعالى، فإنه لا يعرف قيمة هذه النعمة إلا من رأى أو قرأ في التاريخ ماذا يعني الاقتتال على الملك، والتنازع على الحكم! والسعيد من وعظ بغيره، فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ونسألك اللهم المزيد من فضلك.

إن هذا الانتقال بهذه الصورة لقيادة دفة البلاد، قد قطع الطريق على المتربصين والحاقدين على بلادنا وولاة أمرنا ـ وفقهم الله ونصر بهم الدين وأهله ـ، كما أنه خيّب ظنون المراهنين والمزايدين على أمنها واستقرارها، وهذا ـ بحمد الله ـ من عاجل البشرى، خاصةً في هذه السنوات الأخيرة التي اتّسمت ـ في عدد ليس بالقليل من الدول ـ بالتموّجات والاضطرابات، مما شفى صدور المؤمنين، وخيّب ظنون المُرْجِفين، فلله الحمد والمنة.

إن نعمة الأمن ونعمة الاستقرار ـ يا عباد الله ـ لنِعمتان عظيمتان يجب أن نتواصى بذكرهما، والتشديد على أهميتهما، وقَطْعِ الطريقِ على كل من يسعى لزعزعتهما، مهما كانت دوافعه ومبرراته، فلا يمكن أن تطيب الحياة بغير أمن، ولا يمكن أن تستقيم مصالح الناس، ولا أن تنهض الأمة بدون استقرار، هذا في كلّ بلاد الدينا، فكيف ببلاد الحرمين الشريفين؟ اللذين هما مهوى أفئدة المسلمين في كل مكان، فالحفاظ على أمنهما مسؤولية كل مسلم وليس المواطنون فحسب.

نكرر ونقول: الحمد لله على قضائه وقدره، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى.. والحمد لله رب العالمين.


الخطبة الثانية

الحمد لله.... أما بعد:

فبهذه المناسبة فإننا نؤكّد على أمورٍ مهمة تتعلق بالبيعة الشرعية:

أولها: البيعة الشرعية لولاة الأمر وفّقهم الله، تتم على كتاب الله وسنة رسوله، على السمع والطاعة بالمعروف في العُسْر واليُسْر، والمَنْشَط والمَكْرَه، امتثالاً لأمر الله عزّ وجلّ، واستنانًا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي قال: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةٍ جاهلية" رواه مسلم([2])، وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ: "بايعْنا رسول الله على السمع والطاعة في عُسْرِنا ويُسْرِنا، ومَنْشَطِنا ومَكْرَهِنا، وأَثَرَة علينا، وأن لا نُنازع الأمر أهله"([3]).

ثانياً: البيعة قرّرتها الشريعة، وأوجبتها نصوصُ الكتاب والسنة، وحكى الإجماع عليها غيرُ واحد من أهل العلم، فهي مَعْلَم من معالم السنة، يجب التزامها والوفاء بها؛ لأنها أصل عقدي، وواجب شرعي، يقول النووي رحمه الله: "وتنعقد الإمامة بالبيعة"، فالوصية لي ولكم بلزوم البيعة الشرعية ومقتضياتها لولي الأمر على الكتاب والسنة، ومنهج سلف هذه الأمة.

ثالثاً: بعضُ الناشئة قد يغيب عنه مفهوم البيعة الشرعية، وربّما تلقى معناها من غير مصادرها الشرعية، بل ربما سمعوا مَن يسخر بها -عياذًا بالله- أو يتحدث عنها بمفهوم مشوّش!

ألا وإن من أهمّ ما ينبغي أن يعلمه النشء أن البيعة الشرعية دِينٌ نتدين به، وليست موروثاً اجتماعياً.

وأنه ليس من شروط صحتها مبايعةُ كلُّ الناس لولي الأمر، بل يكفي مباعية أهل الحل والعقد، وهم ينوبون بذلك عن الناس، كما نص على ذلك عامة أهل العلم، ونقل الإجماع غير واحد من العلماء كالنووي وغيره، يقول شيخنا ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ: "ولا يشترط أن يبايع كل فرد من الأمة، لأن هذا شيء غير ممكن، ولهذا لم يبايع أبا بكر رضي الله عنه إلا أهلُ الحل والعقد، ولم يرسل إلى كل مراهق، ولا إلى كل عجوز، ولا إلى كل شاب، ولا إلى كل رجل أن يبايعه، ولم يرسل إلى مكة ولا إلى الطائف ولا إلى غيرها من البلاد، بل ولا إلى أهل المدينة، بل اكتفى بمبايعة أهل الحل والعقد. وبهذا نعرف أن من قال من السفهاء الأغرار: أنا لم أبايع، أنه أخطأ، فإنه لا يشترط أن يبايع كل واحد من الأمة، فالمبايعة ليست لكل واحد من الناس، بل المبايعة لأهل الحل والعقد، فإذا أجمعوا عليه وبايعوه صار إماما، ووجب على الجميع التزام أحكام الإمام في هذا الرجل الذي أجمع عليه أهل الحل والعقد"([4]).

وقال ـ رحمه الله ـ منبهاً على خطر قضية يتداولها بعض الأغرار في مواقع التواصل: "ومن الناس من يقول: أنا ما بايعت الإمام، ولا له بيعة عليّ؛ لأن مضمون هذا الكلام أنه لا سمع له ولا طاعة له ولا ولاية، وهذا أيضاً من الأمر المنكر العظيم؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن من مات من غير بيعة وليس له إمام؛ فإنه يموت ميتة جاهلية، يعني ليست ميتة إسلامية؛ بل ميتة أهل الجهل والعياذ بالله، وسيجد جزاءه عند الله عزّ وجل.

فالواجب أن يعتقد الإنسان أن له إماماً، وأن له أميراً يدين له بالطاعة في غير معصية الله، فإذا قال مثلاً: أنا لن أبايع، قلنا: البيعة لا تكون في رعاع الناس وعوام الناس، إنما تكون لأهل الحل والعقد"([5]).

والسؤال: من هم أهلُ الحلّ والعقد؟ هم أهل الشوكة في المجتمع، وهم ـ كما قال شيخنا ابن عثيمين ـ : "وجهاء البلاد، وشرفاء البلاد، وأعيان البلاد"([6])ا.هـ.

أيها الإخوة: إن الشريعةَ جعلت مناط البيعة بهؤلاء حتى لا يفلت زمام الأمر، وحتى إذا بايع هؤلاء بايع من تحتهم ممن يوثق بسداد رأيهم ورشدهم، وهذا يؤول إلى اجتماع الكلمة، وهذا مقصد عظيم من مقاصد الشريعة.

وما أحسن فقهَ الإمام أحمد لما سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية" مامعناه؟  فقال: تدري ما الإمام؟  الإمام الذي يجمع عليه المسلمون كلهم يقول: هذا إمام، فهذا معناه.

فتأمل رسوخ الفقه لدى الإمام أحمد رحمه الله، فلم يترك الأمر لآحاد الناس، بل هو لمن تجتمع عليه كلمة أهل الحل والعقد.

وإن أهم مقتضيات الولاية التي يجب أن يتعلمها الشباب مقتضى السمع والطاعة، فكلُّ ما يأمر به في غير معصية لله تعالى فطاعته دين ندين الله به، وعمل نتقرب به إلى الله كما نتقرب إلى ربنا ببقية العبادات، ومَنْ قرأ في كتاب الإمارة من صحيح مسلمٍ مثلاً، يتعجب من كثرة النصوص التي تؤكد على هذا المعنى ـ أعني أننا نسمع ونطيع ديانةً ـ، لما في الاجتماع من العزة، وما في التفرق والنزاع من شر وفتنة، نعوذ بالله منها.

اللهم اجمع على الحق كلمتنا، ولا تشمت بنا عدواً ولا حاسداً.

اللهم اغفر لعبدك عبدالله بن عبدالعزيز، واجزه خيراً على ما قدّم من حسنات في نفع الإسلام وأهله، وتجاوز عن سيئاته بمنّك وكرمك، وأكرم نزله، ووسع مدخله، إنك خير مسؤول، وأكرم مأمول، اللهم ووفق وليّ أمرنا وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد، وارزقهم اللهم البطانة الصالح الناصحة، التي تعينهم على الخير وتدلّهم عليه، اللهم انصر بهم دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم اجعلهم سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك، واجعلهم رحمةً لرعيتهم، وبركةً عليهم. اللهم وأعنهم على حمل هذه الأمانة العظيمة، وارزقهم الأعوان الصادقين المخلصين، اللهم وأدم على بلادنا نعمة الأمن والإيمان، وعمّ بفضل سائر أوطان المسلمين.



([1])  ألقيت في 3/4/1436هـ.

([2]) صحيح مسلم ح(1851).

([3]) صحيح البخاري ح(7055)، صحيح مسلم ح(2866).

([4])  شرح العقيدة السفارينية (1/ 683).

([5])  شرح رياض الصالحين (3/ 656).

([6])  الشرح الممتع على زاد المستقنع (14/ 396).

  • الكلمات الدالة
6723 زائر
0 | 0
المقال السابق

خيرة الله


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات