الفائدة 183: ذكريات مدرِّس القرآن!

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2014-11-30 16:23:15

الفائدة 183: ذكريات مدرِّس القرآن!

بسم الله، والحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فإن للوالد العزيز -متعه الله متاعاً حسناً- تجربةً في تعليم القرآن، فلقد قدِم إلى الزلفي من قرية  الثوير عام 1382هـ، وحلقات القرآن في ذلك الزمان تكاد تكون نادرة، يقوم بها بعض المحتسبين، وكان الوالد قد وعى القرآن، فأقام في تلك السنة -التي قدم فيها- عِدة حلقات، منها: حلقة في مسجد العليوية الذي يسمى الآن بمسجد سعد بن معاذ، وحلقة في الجامع الشمالي الذي يسمى الآن بجامع الملك عبد العزيز، وحلقة متنقلة في بعض البيوت، وكانت الدراسة في إجازات المدارس، وكانت الدراسة على فترتين: صباحية، ومسائية، وكان عدد الطلاب يقرب من المائة، لكن طالباً من هؤلاء لا يزال الوالد يُشيد بذكره، ويُعلي من أمره.

كان هذا الطالب صغيراً في سنه، لم يتجاوز العاشرة من عمره، لكنه كان كبيراً في عقله، فلا ترى فيه طيش الأطفال ولا عبَثهم، بل كان رضي الخُلُق، هادىء الطبع، كأنما ترى رجلاً مكتمل الرجولة، علائم الجِدِّ عليه ظاهرة، فقد بَرَع الطلابَ وفاقهم؛ لما منّ الله عليه من قوة الذاكرة، وسرعة الحفظ، حتى إنه ربما حفظ على الوالد في الجلسة الواحدة عشرة وجوه!

وكانت الطريقة التي يتَّبعها الوالد مع طلابه هي: أن يقرأ عليه الطالب المقطع من المصحف، ثم يذهب الطالب فيحفظ المقطع، ثم يأتي ويقرؤه عن ظهر قلب، فربما أتى هذا الطالب في الجلسة الواحدة عشر مرات، يقرأ نظراً، ثم ما يلبث إلا يسيراً، فيأتي ويقرأ حفظاً، حتى ذكر الوالد أنه حفظ عليه في مدة وجيزة جداً عشرة أجزاء من آخر المصحف، ومضت السنين، وانشغل الوالد بدراسته النظامية، وذهب إلى الرياض، ولكن ذكرى هذا الطالب لا تزال عالقة بذهنه، فصادفه مرة، وإذا هو يَلقى منه همّة عليّة في طلب العلم، وعزماً راسخاً في الإقبال عليه، فأوصاه ببعض المشايخ، وافترقا، ومضت الأيام، وانصرف الوالد لدراسته في الرياض، لكنه إذا جاء إلى الزلفي سأل عنه، وإذا هو يُحَدّث أن هذا الطالب قد رحل إلى بريدة يبتغي العلم، وإذا هو يسمع بأن هذا الطالب قد بز أقرانه، فحذق في العلم ونبغ، وصار له فيه شأن كبير، فكان مقصداً للطلبة، ومرجعاً في العلم، خاصة في علم الحديث، وكانت له التآليف النافعة، والدروس الجامعة، وهو لا يزال طري العود، غض الإهاب، وكان هذا الطالب إذا جاء إلى الزلفي يزور الوالد، وهذا يدل على وفاء نفس، وحسن عهد، وحسن العهد من الإيمان، ولم يزل هذا الطالب حسَن الذِّكر، حميد السمعة، طيب الثناء، حتى جاء عام 1408هـ، وبالتحديد في الثامن والعشرين من شهر شوال وإذا بالناس يُفجأون بسماع خبر رحيله عن هذه الدنيا، فبكى عليه الناس، وتأسفوا لموته، وحضر جنازتَه الجمُّ الغفير، وكان عمره حين وفاته خمساً وثلاثين سنة.

بقي هنا أن يُعرف مَن هذا الطالب الذي لفت الأنظار إليه منذ الصغر؟

إنه الشيخ العلامة عبد الله بن محمد بن أحمد الدويش، نسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة.

وإن في هذه التجربة لفائدةً: أنه ينبغي لمعلمِ الناسِ الخيرَ أن يتفرس في طلابه، فيعرف الجاد من الهازل، والموهوب من غيره، ويميِّز بين من يحمل مخايل النجابة ممن تستعجم عليه المدارك الظاهرة، فيحتسب فيعطي كلاً ما يليق به؛ فلعله أن يأتي اليوم الذي يرى فيه من طالبه ما يَسرُّه، فتبتهج بذلك نفسه، ويزيد أجرُه عند ربه، وكم توقعٍ قد صار واقعاً! والله الموفق.

صالح البهلال

  • الكلمات الدالة
3481 زائر
0 | 0
المقال السابق

روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات