يهودي في الرمق الأخير

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2014-11-17 08:08:32

يهودي في الرمق الأخير

كيف سيتحدِّث الإعلامُ لو أن رئيسَ الدولة أو الملك زارَ مديراً لدائرةٍ حكوميةٍ في بيته بسبب مرضه؟!

وكيف ستكون لغةُ الحديثِ لو أن المريضَ أحدُ الموظفين مِن ذوي المراتب المتدنّية؟

أم كيف ستكون "المانشيتات" في الصحف ومقدِّمات النشرات الإخبارية، لو كان الشخصُ المزور خادماً في القصر الملَكي أو الرئاسي؟

هذا مشهدٌ حقيقيٌّ وقَع بلا ضجيج إعلامي، في طيبةَ الطيبة..

أما المزور: فغلامٌ يهوديٌّ مريض! ومهنته: خادم! وأما الزائر، فليس رئيسَ الدولة في وقته فحسب؛ بل هو سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.

لا تزال معاني هذه القصة تتجددُ لي في مناسبات عدّة.. إنها قصةُ زيارة النبي صلى الله عليه وسلم للغلام اليهودي الذي كان يَخدمه، فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: «أسلِم»، فنظر إلى أبيه وهو عنده! فقال له: أطع أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- فأسلم، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذَه من النار»([1])، لا تزال معالمها ومعانيها تتجدد لي وتلوح في مناسبات عدّة!

ولو أردنا أن نُحلّل هذا الموقف لوجدنا عجباً عاجباً!

لعلنا نستشف بعضاً من هذه المعاني من خلال الإجابة على الأسئلة التالية:

ما الذي يُتوقَّع من غلامٍ حديث السنّ؟ يهودي الديانة؟ وفي مهنة خادم؟

ما الذي كان صلى الله عليه وسلم يتعامل به مع هذا الغلام حتى لم يحتج موقفُ الدعوة إلى الإسلام سوى كلمة: "أسلم"؟

وما الذي كان ينقله هذا الغلام من صور التعامل النبوي معه لأبويه اليهوديين؟

إنّ مِن شأن من يكون خادماً حديثَ السنِّ أن يقع منه ما يستحق التنبيه.

وكون هذا الغلام يهودياً؛ فيُتَوقّعُ منه ما لا يتوقع مِن غيره -مِنْ قَصْدِ الأذى بمن يخدمه- خصوصاً مع ما عُرف عن اليهود مِن حسَد وغَدر، وكراهيةٍ لاختيار النبي العربي صلى الله عليه وسلم رسولاً بدلاً من بني إسرائيل.

يقعُ المرضُ فتقع الزيارة، فيُسلم الغلام في الرمق الأخير!

ويفرح صلى الله عليه وسلم بهذه النفس التي نجت من النار، مع أنها لم تُقدِّم للإسلام شيئاً! لكن النجاة من جهّنم حَدَث يستحق الفرح، ولمثله تدمع العينُ سروراً.

لكن ما الذي يَحدث من بعض المسلمين مع من يَفِد إلى بلادنا من الخدم والعمالة الكافرة؟! وهم مِن أديان ومِلَل شتى، وربما بقي بعضُهم سنوات عِدّة، وكثيرٌ من هؤلاء لا يحتاج ـ في عَرْض الإسلام عليه ـ أكثر وضوحاً ونقاءً، وأسرع اختصاراً من حُسن المعاملة.

وفي المقابل، كيف نتوقّع أن تكون الصورةُ الذهنية عن الإسلام في نفوس هؤلاء، إذا بُخِسَتْ حقوقُهم، أو أُهينت كرامتُهم، أو تأخرت رواتبُهم، أو كُلّفوا فوقَ ما يطيقون؟! لن تُمسح هذه الصورة ولو أُعطوا مائةَ كتابٍ أو مادةٍ مسموعة أو مرئيةٍ عن الإسلام.

لقد دعا الخليلُ عليه الصلاة والسلام ـ ومن معه من المؤمنين ـ فقالوا: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾[الممتحنة: 5]، وأحسب أن لهؤلاء نصيباً من هذه الفتنة؛ حين يصدّون الناسَ عن الإسلام بسوءِ تصرفاتهم وشنيعِ فِعالهم.

كم يجني المسيئون لمعاملة مَن تحت أيديهم من العمّال والخدَم، لا على أنفسهم فحسب؛ بل على دين الإسلام! ويا لعِظَم إساءتهم وجريمتهم!

وهنيئاً لتلك النفوس الكبيرة، والقلوب الطاهرة التي أنقذ اللهُ بحسن معاملتها أنفساً من النار.



([1]) البخاري ح(1356).

  • الكلمات الدالة
10556 زائر
288 | 0
المقال السابق

درة الحفاظ


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات