مسالك الهوى

QR code
د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-03-18 01:10:32

مسالكُ الهوى


مُذْ وُلِدَ الإنسان وُلِدَ معه الهوى، يَصحبه في كثير من تصرفاته وأحكامه.

وحين يُذْكرُ الهوى فالمراد به الذي يمسُّ مقامات الديانة، ويتعلق بالنظر في الأدلة الشرعية، وتقويم الآخرين.

ولما كان كثيرٌ من الناس قد جُبِلَ على الانتصار لنفسه، وكراهية ظهور غيره عليه، إما ظهوراً حسيّا كالمناصب والوظائف، أو معنوياً بالحجج والبراهين؛ جاءت الشريعة مقوّمةً لهذا المسلك؛ حتى لا يضل بسببه العبد.

ولخطورة هذا الأمر، جاء النهي عن اتباع الهوى في أعلى صُوَرِه، حين خوطب به أفضل الخلق، وهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى لنبيه داود عليه الصلاة والسلام: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه...﴾الآية [ص: 26].

وإذا كان داودُ معصوماً من الجور؛ فإن في ذلك إشارة إلى شدّة تمكّنه في عموم النفوس، وأنه لا عاصم لها من ذلك إلا بسلوك طريق العدل والإنصاف، كما قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾[النساء: 135].

وفي مقام البحث عن الأدلّة لمسألةٍ من المسائل، أو الردّ على المخالف؛ تشتد الحاجة إلى التذكير بهذا الأصل؛ لأن المقام مقام إثبات صحة دعوى المتكلّم، وخطأ المقابل، فقد يعثر الباحثُ أثناء تنقيبه عن الأدلة على بعض ما يصلح أن يكون دليلاً لخصمه، أو يُسقط الاحتجاج بدليله، فتأتي مراقبة الله، والخوف من يوم الحساب؛ لتقيم كفةّ العدل في هذا المقام.

وكم توقفتُ كثيراً أمام تلك الشفافية والصراحة المتناهية، في ذلك النص الجميل الذي يعبّر عن هذه الحالة، في كلامٍ دبّجته يراعة العلامة المعلمي ـ رحمه الله ـ حيث يقول: "وبالجملة، فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى! وقد جربتُ نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي، فيلوح لي فيها معنى، فأقرره تقريراً يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذاك الخادش، وتنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا لأني لما قررتُ ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرتُ أهوى صحتَه، هذا مع أنه لا يعلم بذلك أحدٌ من الناس، فكيف إذا كنتُ قد أذعته في الناس، ثم لاح لي الخدش؟! فكيف لولم يلُح لي الخدش ولكن رجلاً آخر أعترض علي به؟! فكيف إذا كان المعترض ممن أكرهه؟! هذا ولم يُكَلّف العالم بأن لا يكون له هوى! فإن هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالم أن يفتِّش نفسه عن هواها حتى يعرفه، ثم يحترز منه، ويُمعن النظر في الحق من حيث هو حق، فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه. وهذا ـ والله أعلم ـ معنى الحديث الذي ذكره النووي في (الأربعين) وذكر أن سنده صحيح وهو: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به»([1]).

والعالِمُ قد يقصّر في الاحتراس من هواه، ويسامح نفسَه فتميل إلى الباطل فينصره، وهو يتوهم أنه لم يخرج من الحق ولم يُعادِه، وهذا لا يكاد ينجو منه إلا المعصوم، وإنما يتفاوت العلماء، فمنهم من يُكثر الاسترسال مع هواه، ويُفحِش حتى يقطع من لا يعرف طباع الناس ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمد، ومنهم من يقل ذلك منه ويخف"([2]).

وبعدُ، فلا عجَبَ أن تتفق نصوص القرآن ـ وهي بالعشرات ـ على ذم الهوى والتحذير من اتباعه، ولكن العجب من قارئ لهذه النصوص لا يزال راكباً مطية الهوى، ظناً منه أنها توصله مُبْتَغاه، فإذا هي تُسْقطه من عين الله ومن أعين الخلق.

 

 



([1]) هو الحديث (41) من أحاديث الأربعين، وقد علّق ابن رجب على تصحيح النووي لسنده فقال: "قلت: تصحيح هذا الحديث بعيد جداً من وجوه،..." ثم ذكرها، ينظر: "جامع العلوم والحكم" (2/ 394).

([2]) القائد إلى تصحيح العقائد (ص: 32).

  • الكلمات الدالة
4817 زائر
0 | 0
المقال السابق

مرحبا بالواعظين


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات