رجل الساقة

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-05-26 23:46:08

رجل السَّاقَة


 

جمعني لقاء بأحد العاملين في الجهات الخيرية، فأتى الحديثُ على عمله في مهمة لا تناسب مقامه الحالي بتوجيه ممن يعلوه رتبةً في تلك الجهة، فقال لي بالحرف الواحد: أنا أعملُ حيثُ وُضِعْتُ، ولو كنت في المستودع!

هنا تذكرتُ قوله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع"([1])، والشاهد منه قوله: "إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة".

ما أبهى هذا التعبير النبوي عن هذا النوع من الناس! البسيط في هيئته ولباسه.

ولعلك ـ أخي القارئ ـ تشاركني جمال هذا التعبير الذي سطّره ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ مبيناً صفة هذا الرجل المذكور، حيث قال: "خامل الذكر، لا يقصد السموّ، فأين اتفق له كان فيه"([2]).

كم نحن بحاجة إلى هذه النفوس الكبيرة في ميادين العمل لهذا الدين! تلك النفوس التي لا تعنيها التصنيفات الإدارية، ولا "الفلاشات" الإعلامية، ولا تُردّد أسمائها في الحفلات الخطابية، أو منصات التتويج، ولا يعنيها أن تكون في صدر المجلس أو طرفه، بل الأهم عندها أن تخدم دين الله، ولو كانت المصلحة تقتضي أن يكون في مكانٍ لا تتسلط عليه كاميرات الإعلام، ولا تلهج به الألسنة.

يحدثنا التاريخ عن نماذج من رجال الساقة، منهم من عرفناه، والأكثرون لم نعرفهم، ولكنهم لا يخفون على الله تعالى، وفي الواقع من أمثالهم كثير.

تأمل معي في قصة ذلك الرجل الذي نوّه النبي صلى الله عليه وسلم به بعد أن وَضعت الحربُ أوزارها في إحدى غزواته، فقال لأصحابه: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم، فلاناً، وفلاناً، وفلاناً، ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم، فلاناً، وفلاناً، وفلاناً، ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: لا، قال: «لكني أفقد جليبيبا، فاطلبوه» فطُلب في القتلى؛ فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فوقفَ عليه، فقال: «قتل سبعة، ثم قتلوه هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه» قال: فوضعه على ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم، فحفر له ووُضع في قبره([3]).

وعَقِيْب فتح نهاوند (سنة 21هـ)([4]) ـ والتي يسمّيها المسلمون فتح الفتوح ـ جاء البشير إلى الفاروق رضي الله عنه فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعز الله به الإسلام وأهله، وأذل به الكفر وأهله؛ فحمد الله عز وجل، ثم قال: النعمان بعثك؟ قال: احتسِب النعمانَ يا أمير المؤمنين، قال: فبكى عمر واسترجع قال: ومن ويحك! قال: فلان وفلان، حتى عدّ له ناساً كثيرا، ثم قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فقال عمر وهو يبكي: لا يضرهم ألا يعرفهم عمر، ولكن الله يعرفهم.([5])

ويقول عمر بن عبدالملك الكناني: صحب ابنُ محيريز (169هـ) رجلاً في الساقة ـ في أرض الروم ـ فلما أردنا أن نفارقه قال له ابن محيريز: أوصني، قال: «إن استطعت أن تَعرف ولا تُعرف فافعل»([6])، وابن محيريز هذا، هو الذي سمعه بعضُهم يقول: "اللهم إني أسألك ذِكراً خاملاً"([7]).

هذه نماذج لقصص اختلفت سياقاتها، واتحدت مقاصدُها، تُذَكّر أولئك الذين يشعر أحدُهم بالغبطة في العمل لدينه، ويتنفس السعادة وهو يتقرب إلى الله بنفع إخوانه، ثم تأتيه نفسُه في أحايين فيَشْرقُ ببعض حظوظها، حين تقتضي مصلحةُ العمل أن يقدَّم غيرُه عليه، أو أن يعمل في مكان لا تصله لواقط الصوت، ولا مذاييع الإعلام، ولا ألسنة المادحين.

إن من توفيق الله لعبده ورحمته به أن تكون هِمّةُ نَفْسِه، وقِبْلَةُ قلبه ـ في عمله ـ أن يكون خالصاً لله، فلا يضيق صدرُه إذا لم يقدَّم، ولا تجزعُ نفسُه إذا لم يشتهر، بل إذا اقتضى الأمر أن يعمل بصمت؛ عمل ونفسه تتدفق سروراً، وقد يرحل بصمت، وهو يتذكر كلمةَ الفاروق: "لا يضرهم ألا يعرفهم عمر، ولكن الله يعرفهم"، وهو يطمع أن يَقْدُمَ على "طوبى" دار الطيبين المطيّبين، الصادقين المخلصين.

 



([1]) البخاري ح(2886).

([2]) كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/539).

([3]) مسلم ح(2472).

([4]) هذا هو المشهور، وقيل غير ذلك.

([5]) تاريخ الطبري (4/120).

([6]) حلية الأولياء (5/141).

([7]) حلية الأولياء (5/140).

  • الكلمات الدالة
19374 زائر
9 | 0
المقال السابق

جرح وتعديل (2/2)

المقال التالى

مرحبا بالواعظين


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات