المبادرون
إن المتأمل في سِيَر العظماء والمؤثّرين في العالم سيجد أن مِن أبرز سماتهم، ومفاتيح تأثيرهم في مجتمعاتهم هو: روح المبادرة.
وما المبادرة؟ إنها باختصار - ما عبّر عنه القرآن -: المسارعة، والسبق إلى تحمل مسؤولية، أو القيام بعمل يقتضيه الحال.
وفي ديننا العظيم، تكون هذه المبادرة ممدوحةً إذا كانت مسارعة ومبادرة إلى فعل الخير بمفهومه الشامل: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[البقرة: 148]، ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾[المؤمنون: 61]، من غير أن ينتظر الإنسان أن يُنادى، أو يُدعى من قِبَل الآخرين إلى فعل هذا الأمر أو ذاك، بل يجد مِن نفسه دافعاً وحافزاً.
ومن قرأ القرآن بتدبر وتأمل لاح له حفاوةُ القرآن بهذا المعنى الشريف، قبل أن يكتشفه ستيفن كوفي - والذي له فضل السبق في جمع تلك الصفات المشهورة للناجحين - ولعل في الآيتين السابقتين ما يدلل على هذا المعنى، وإليك أمثلةً أخرى:
1 ـ وصف الله تعالى عمومَ الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾[الأنبياء/90].
فتأمل في دلالة الفعل المضارع (يسارعون)، و(يدعون) فهذه هي حالهم وصفتهم دوماً.
2 ـ تأمل في مبادرة موسى عليه الصلاة والسلام في قضاء حاجة المرأتين في سقي الماء لهما؛ لما رأى أنهما لا تستطيعان السقي بسبب وجود رجال على الماء، وهُنّ لا يستطعن مزاحمة الرجال ديناً وحياءً، فبادر - عليه الصلاة والسلام - مِن دون أن يضطرهما إلى أن تطلُبا منه ذلك، وهكذا هم العظماء والمؤثرون.
3 ـ كم - كذلك - في قصة يوسف من ألوان المبادرة! ومن ذلك:
أ ـ مبادرته بدعوة السجناء، مع أنهم لم يطلبوا منه إلا تفسير الرؤى.
ب ـ لم يتوان عن عرض نفسه ليكون مسؤولاً عن خزائن الأرض ـ كما قاله طائفة من المفسرين وإن خالف غيرهم ـ ! ويالها من مسؤولية!
ج ـ مبادرته بالعفو عن إخوته، والصفح عنهم، وعدم تذكيرهم بخطأهم.
إلى غير ذلك من صور المبادرة الإيجابية في حياته عليه الصلاة والسلام.
أما إذا قلّبت سيرةَ نبينا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنك واجدٌ عجباً!
فمنذ أن وطئت قدماه أرضَ المدينة النبوية؛ قام بعِدة مبادرات مهمة، منها:
أ ـ عقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار.
ب ـ عقد الصلح مع اليهود، فالدولة ما زالت ناشئة، وهم أهل غدر، ولا يصح عقلاً ولا شرعاً - حينها - فتح جبهات مع أناس لهم قَدَم وحضور كبير في المدينة.
ج ـ بناء المسجد؛ ليكون مكاناً يربي فيه أصحابَه، ويعلمهم الكتابَ والحكمةَ، ومكاناً للفتوى والقضاء، إلى غير ذلك من الوظائف العظيمة التي حفل ذلك المسجد المبارك.
في سلسلة كبيرة من المبادرات المهمة، التي كان الأثر الأكبر في تكوين دولة ناشئة قوية في ظروف صعبة جداً.
وأما حياة الصحابة - رضي الله عنهم - ومَن بعدهم من الأئمة ففيها من العجائب الشيء الكثير، وأكتفي بذكر مبادرتين كان لهما الأثر الكبير على هذه الأمة منذ أن نفذتا إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، وهما:
1 ـ مبادرة الصديق بمشورة من الفاروق - رضي الله عنهما - إلى جمع المصحف من السعف، واللخف، والجلود، بعد أن قُتل كثيرٌ من القراء في حروب الردة، ثم تمم هذه المبادرةَ المباركةَ أميرُ المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - حين جمع الناس على حرف واحدٍ؛ خشية أن تختلف هذه الأمة في كتابها كما اختلف أهل الكتاب من قبلنا.
2 ـ مبادرة الإمام البخاري إلى التأليف في الصحيح المجرد من الأحاديث الضعيفة، ثم تبعه المصنفون في هذا الباب.
فتأمل - أيها المبادر - كم لهذين العملين من أثر علينا ونحن في هذا القرن المتأخر نسبياً، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
والمقصود من هذه الأمثلة: أن يسعى الإنسان للانطلاق والتأثير في أي مجالٍ يحسنه ويتقنه، ويبدع فيه؛ فالأمة بحاجة إلى جهود جميع أبنائها، وقد شبعت من الغثائية التي طفحت على جميع المستويات بلا استثناء!
إن من المؤلم أن ترى شاباً آتاه الله قدرات، وطاقات، ومواهب، وأمَّته تنتظر منه الكثير، فإذا به يرضى بالدون والدعة، ويتفنن في تضييع الوقت وقتله هنا وهناك، ويُعرض عن المشاركة - مع كثرة الإلحاح عليه - في نفع أمته، ومجتمعه، ووطنه؛ هرباً من النقد! أو خوفاً من الفشل!
اقرأ في سير العظماء، وعلى رأسهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والصحابة رضوان الله عليهم، وغيرهم من المؤثرين في أممهم؛ فستجد في سيرهم عجباً، وفي أخبارهم عبراً.
ولنتذكر جيداً أن الذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، فلندع الكسل جانباً، ولنكن مبادرين، حتى نكون مؤثرين ونافعين، ولنتأمل جيداً وصف الله لطائفة مؤثرة نافعة في أمتها،في قوله سبحانه: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾[آل عمران/113، 114].