دلني على كتاب
أريد أن أحفظ الصحيحين؟ ما أفضل كتاب في التفسير؟ ما أحسن كتاب في السيرة النبوية؟ ما الكتاب الذي تنصحني به في الفقه؟ ما أجود كتاب شَرَحَ عمدة الأحكام وبلوغ المرام؟ ما أفضل الكتب لدراسة أصول الفقه؟ هل تنصحني بحضور درس العالم الفلاني؟ هل يناسب أن أسمع دروس الشيخ فلان في العلم الفلاني؟
تَرِدُ هذه الأسئلة وأمثالها في رسائل الجوال، وفي صفحات التواصل الاجتماعي، وفي البريد الإلكتروني، وفي غيرها من الوسائل!
والحقيقة أن الجواب عن مثل هذا السؤال - مع خفاء حال المسئول على السائل - من الصعوبة بمكان؛ ذلك أن الكتب كثيرةٌ جداً، ومستوياتُ السائلين في التحصيل العلمي والذكاء ليست واحدة، وأساليب العلماء ومناهجهم مختلفة في التقرير المسموع والمكتوب.
ومن هنا فإنه يحسن بالسائل أن يُبين حالَه؛ من حيثُ السنُّ، والتحصيلُ العلمي، والتخصصُ الذي يميل إليه ويهواه، وغير ذلك من الأمور التي قد تؤثر في الجواب.
وكذلك فإنه يحسن بالمسؤول أن يسأل عن حال السائل قبل طرح الجواب الذي قد لا يناسب حال السائل، بل قد يقع عكس المراد!
وفي تنوع إجابات النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة الذين سألوه عن أفضل الأعمال؟ وأي الأعمال خير؟ ما يدل على هذا، ويرشد المجيب على أمثال هذه الأسئلة.
فهذا ابن مسعود يسأله - كما في الصحيحين -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قال: ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين)) قال: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) قال: حدَّثني بهن، ولو استزدته لزادني([1]).
ويَسألُ رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: ((تُطعم الطعام، وتَقرأ السلام على من عرفتَ وعلى من لم تعرف))([2]).
فإذا كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وهُمْ هُم في الفضل والإيمان، وتميزهم بتلقيهم عن المعلم الأول صلى الله عليه وسلم كفاحاً من غير واسطة،؛ إلا أنهم ليسوا على درجة واحدة في الفهم والعمل، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يراعي حالَ السائل، وحاجتَه، وزمانَه، ومكانَه.
ونقرأُ في إجابات السلف الصالح لتلاميذهم أو مَن يطلب منهم الوصية؛ تنوعاً وتبايناً في الإجابات والوصايا، وهي نابعة من الأصل الذي أشرتُ إليه آنفاً.
ويعجبني الاستشهاد بتلك القصة التي رواها ابنُ عبدالبر في "الجامع" من طريق محمد بن حارث، في "أخبار سحنون بن سعيد"، أنه قال:
كان مالك بن أنس، وعبدالعزيز بن أبي سلمة، ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز([3])، وكان إذا سأله مالك وعبدالعزيز أجابهما، وإذا سأله ابن دينار وذووه ـ أي أقرانه ـ لم يجبهم! فتعرَّض له ابنُ دينار يوماً فقال له: يا أبا بكر! لم تستحل مني ما لا يحل لك؟ قال له: يا ابن أخي! وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبدالعزيز فتجيبهما، وأسألك أنا وذويّ فلا تجيبنا؟ فقال: «أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟» قال: نعم! قال: إني قد كبر سني، ورَق عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني، ومالك وعبدالعزيز عالمان فقيهان، إذا سمعا مني حقاً قبلاه، وإذا سمعا مني خطأ تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه.
قال محمد بن حارث: هذا والله هو الدين الكامل، والعقل الراجح، لا كمن يأتي بالهذيان ويريد أن ينزل من القلوب منزلة القرآن!([4])
وفي سِيَر أعلامنا وعلمائنا المعاصرين التطبيقية ما يجلّي هذا المعنى، فلقد كان مفتي الديار السعودية في وقته؛ الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله(ت: ١٣٨٩هـ) يرتب الدروس على ثلاث مراحل: مبتدئين، متوسطين، منتهين، وقريب منه شيخ مشايخنا العلامة السعدي رحمه الله(ت: ١٣٧٦هـ) حيث نصب بعضَ كبار تلاميذه لتدريس الطلاب المبتدئين قبل أن يدخلوا حلْقَتَه.
ويمتد هذا المعنى ليشمل المعلّم في فصله، والمربي في محضنه، والوالدان في بيتهما؛ أن يراعوا هذا المعنى؛ ليتحقق الغرض المنشود، والهدف المقصود، وحتى لا تضيع الأوقات سدى، وتتبدد الجهود في غير طائل. والله الموفق.