فتوى في المجلس النبوي

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2014-06-28 07:47:16

فتوى في المجلس النبوي

 

دعنا ـ أيها القارئ الكريم ـ نتصور أننا الآن معا في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءه سائل يسأله عن مسألةٍ ما، فأجابه: افعل، أو: لا تفعل! أتُرى هذا السائل يستفصل: يا رسول الله! هل هذا واجب أم مستحب؟ يا رسول الله! أهو محرم أم مكروه؟ هل هذا الذنب كبيرة أم صغيرة؟

أقول وبكل اطمئنان: لن تجد هذا محفوظاً في تاريخ أسئلة الصحابة، بل أنت واجدٌ منهم السؤال الذي يكشف ما قد يكون غامضاً فقط؛ حتى يقع منهم الامتثال موقعه المطلوب، ولعل قصة أَمْرِهِ للثلاثة الذين خُلِّفوا، حين قال لهم رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ((إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك))([1])، قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنها،... الحديث! لعل في هذه القصة أوضح الدلالة على ما سبق.

وليس هذا هو الموقف الوحيد، بل ثمة مئات الأمثلة التي تؤكد هذه الحقيقة الدقيقة، ضرب الصحابة فيها المثل الأعلى والأعجب في التسليم والطاعة، ومن أكثر الأحاديث التي استوقفتني: حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، قال: كنا نحاقل الأرض([2]) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكريها بالثلث والربع، والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي([3])، فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعاً، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، «نهانا أن نحاقل بالأرض...»الحديث.([4])

وفي رواية لهذا الحديث أن عبدالله بن عمر كان يكري أرضه([5])، حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض، فلقيه عبدالله فقال: يا ابن خديج! ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ قال رافع لعبدالله: سمعت عمَّيَّ ـ وكانا قد شهدا بدراً ـ يحدثان أهل الدار: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) قال عبدالله: "لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى"! ثم خشي عبدالله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئاً لم يكن علمه؛ فترك كراء الأرض"([6]).

وفي رواية: قال ابن عمر: «لقد منَعَنَا رافع نفع أرضنا»([7]).

فتأمل في هذا السموّ الإيماني، والاستجابة العظيمة! فعمُّ رافع يصرّح بأن ما نهي عنه([8]) له فيه خيرٌ وارتفاق ونفعٌ، ومع ذلك تَرَكَه وعلَّل بعلةٍ عظيمة: (وطواعية الله ورسوله خيرٌ لنا)، وابنُ عمر علل بهذه العلة ـ كما في الرواية الثانية ـ وصرّح في اللفظ الأول أنه كان متيقناً من أن كراء الأرض موجود في العهد النبوي، ومع ذلك تركه خشية ـ فقط مجرد ظن ـ أن يكون ثمة ما نسخَ هذا الحكم!

إن المواقف التي تحكي استجابة الصحابة بالمئات، لكن في هاتين القصتين استجابة تتعلق بموضوعنا هذا، فظهير وابن عمر لم يستفصلا، بل نفّذا مباشرةً، مع أن هذه أمورٌ تتعلق بأمر المعاش والأرزاق، وقد علمتَ ـ أيها القارئ الفطن ـ حال الصحابة الاقتصادية التي غلب عليها الضعف.

إن اللافت للنظر: أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ على مختلف مستوياتهم في العلم وطول الصحبة؛لم يُنقل عنهم ـ فيما أعلم ـ ذلك الاستفصال الذي نجده عند أهل عصرنا ـ والذي أشرتُ إليه في صدر هذه المقالة ـ بل كانوا ينفذون مباشرةً! وهذا ـ لعمر الله ـ سرٌ من أسرار تميّزهم وعلوّ شأنهم وجلالة قدرهم، فهم ـ في مقام الامتثال ـ لا يَسألون سؤال الذي يريد التخفف من العمل، بل يسألون سؤال الراغب في العمل والامتثال.

إننا ـ ونحن في زمنٍ اتسعت فيه دائرة التواصل، واختلاف الفتاوى والمفتين على الناس ـ بحاجة إلى غرس هذا الأصل العظيم، وهو: تعظيمُ شعائرِ الله، وتربيةُ الأجيال على هذا المعنى العظيم، الذي يختصر كثيراً من السبل في صلاح القلب وتوطينِه على فعل الطاعة وترك المعصية.

وهذا كلّه ـ كما هو ظاهر ـ ليس دعوةً إلى ترك التفقّه في معرفة الأحكام التكليفية! بل هو دعوة إلى تعظيم الأمر والنهي، "فهذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب، وأعرف الناس به: أشدهم له تعظيماً وإجلالا"([9]).

إن السؤال عن الحكم - وإن كان يحمد للسائل من جهة التثبت في معرفة الحكم، إلا أنه - يُذم من جهة عدم تعظيم الأمر والنهي، وإن لم يترتب عليه إثم بفعله –إن لم يكن محرَّماً- أو تركه –إن لم يكن واجباً-.

وإن من إجلال الله تعالى وتعظيم شرعه: أن يوطِّن الإنسان نفسه على ترك جميع المناهي ـ المحرمة والمكروهة ـ وفِعل ما استطاع من الأوامر ـ الواجبة والمستحبة ـ قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج: 32]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}[الحج: 30]، وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: 7].

فتأمل ـ أيها الموفق ـ هذين الوصفين: التقوى، الخيرية! أتراهما يحصلان لمن يتهرب من الامتثال؟ أو يحاول الالتفاف على النصوص؟ أو تتبع الرخص؛ لعله يجد رخصةً أو فتوى يتخفف بها؟ أو من زوّر في نفسه فعل المكروه وترك السنن باستمرار وعلى سبيل الديمومة؟!

ومن البدهيات أنه ما من مسألة شرعية - قديمة أو نازلة - إلا ولها حكمٌ لا يخرج عن الأحكام التكليفية الخمسة: الوجوب، والسنية، والإباحة، والكراهة، والتحريم، ومعرفةُ هذه المسائل من فروض الأعيان على من يريد معرفة منازل الأحكام التي تَرِد في النصوص - بلْهَ المتصدي للفتيا - وليس الحديث هنا عن هذه المسألة؛ وإنما الحديث عن مسألة: موقف المسلم - أياً كان - من الأمر والنهي الشرعيين! وأنه التسليم وسرعة الطاعة والتطبيق، وإنما الحديث عن عموم الناس الذين يتلقّون الجواب من أهل العلم عن أسئلتهم واستفتاءاتهم.

وأختم هذه الأحرف بالتنبيه لأمرين:

الأول: أن فائدة هذه معرفة المسلم أن هذا الأمر واجب أو مستحب أو مكروه أو محرم – مثلاً - حتى يعقد نيته عند العمل أو الترك على ذلك الحكم.

الثاني: أن معرفة ذلك يمكننا من توصيف الحكم الشرعي على الفاعل والترك من جهة لحوق الأوصاف الشرعية المترتبة على ذلك، هل هو فاسق، أم لا؟

اللهم ارزقنا تعظيم أمرك ونهيك، ويسّر لنا طاعتك، وارزقنا التلذذ بها.

والحمد لله رب العالمين.

 



([1]) البخاري ح(4418)، مسلم ح(2769).

([2]) اختلف في تفسير المحاقلة، لكن المعنى الجامع للعلة في هذه الصورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نوع من البيوع لأن مآله إلى بيع ربوي، لوجود الجهل بالتساوي بين صنفين ربويين، والقاعدة المقررة في أبواب الربا: أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.

([3]) هو ظهير بن رافع رضي الله عنه، وقد فهم النهي عن جميع صور المحاقلة، وفهمه هذا غير صحيح؛ فمجموع الأحاديث يدل على أن النهي إنما توجه إلى صورة يقع فيها الجهل بالتساوي ـ كما سبق ـ.

والعبرة هنا في تركه شيئاً اعتقد أن فيه رفقاً به؛ استجابة لأمر الله ورسوله.

([4]) مسلم ح(1548).

([5]) أي: يؤجرها.

([6]) مسلم ح(1547).

([7]) مسلم ح(1547).

([8]) حسب فهمه كما سبق.

([9]) مدارج السالكين (2/ 463).

  • الكلمات الدالة
7384 زائر
0 | 0
المقال السابق

ما بيننا لم يبلغ ديننا

المقال التالى

الغبن في التوكل


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات