معالم من سيرة الإمام سفيان الثوري

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2014-06-28 02:52:50

معالم من سيرة الإمام سفيان الثوري([1])

(97 – 161هـ)

 

الحمد لله القائل: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[السجدة: 24]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفّق لنصرة الحق رجالاً ونساء، عاشوا لأجله، وماتوا في سبيله، وبه كانوا يعدلون، وأشهد أن نبينا وإمامنا وسيدنا محمداً عبدالله ورسوله, وصفيّه وخليله، جعله الله قدوة للمتقين، وإماماً للأئمة أجمعين، فبه يتأسون، وبمنهجه يقتدون، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديهم، وسار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن تذاكر سِيَر الأئمة: مِن الدِّين، ومما يبعث على التأسي بهم، والاستفادة من جوانب التميّز في حياتهم.

وتشتد الحاجة لإبراز مآثرهم في وقت طغت فيه نجومية موهومة، لأهل اللهو والعبث! فصاروا قدوةً لكثير من شباب وفتيات الأمة.

وفيما يخصُّ طلبة العلم، فإن كثيرا منهم ربما طغى عليهم المعرفة بشخصية أولئك الأئمة العلمية؛ أكثر من معرفتهم بشخصيتهم العملية، وهذا قصور وتقصير؛ فإن هؤلاء الأئمة لم يصلوا إلى هذه المكانة السامية، والمنزلة العالية؛ إلا بجمعهم بين العلم والعمل، ولذا يؤثَر عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: قصص القوم أحب إلينا من كثير من الفقه.([2])

ومن أعظم فوائد النظر في سيرهم: أن يعرف الإنسانُ قدْر نفسه في العلم والعمل، فإن المرء إذا طالع في سيرهم تملَّكه الخجلُ والحياءُ من حاله وحالهم!

أمّا عَلَمُنا في هذه الخطبة، فهو من أشهر وأبرز أئمة الإسلام على مر العصور!

إمام عاش حياتَه كلها في القرن الثاني تقريباً، حياته مليئةٌ بالعِبَر والدروس والمواقف.. إنه الإمام الكبير، وسيد العلماء في زمانه: أبو عبدالله سفيان بن سعيد الثوري.

لقد كان رحمه الله ذا همة في الطلب والتحصيل منذ صغره، ولجلالته فقد حدّث عنه بعضُ شيوخه، ومنهم أبو إسحاق السبيعي، الذي رآه مقبِلا يوماً على حلقة الدرس فقال: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾[مريم: 12].

وقال الإمام أحمد لأحد تلاميذه: أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري، لا يتقدمه أحدٌ في قلبي.([3])

أيها الإخوة: إن الأهم في سيَر هؤلاء الأئمة هو استلهام العبَر منها، ومحاولة الوقوف على سرّ التميُّز الذي رفعهم الله به، وفيما يخص الإمام سفيان رحمه الله؛ فإن الناظر في سيرته سيدرك أن لإمامته أسباباً منها:

1 ـ الزهد والورع:

وكلمات سفيان في هذا تكشف لنا حقيقة الزهد عنده، حيث يقول: ليس الزهد بأكل الغليظ، ولبس الخشن، ولكنه: قصر الأمل، وارتقاب الموت.

وقيل لسفيان الثوري: أيكون الرجل زاهداً ويكون له المال؟ قال: نعم، إن كان إذا ابتُلي صبر، وإذا أُعطي شكر([4]).

2 ـ ذكر الآخرة:

ذِكر الآخرة هو دأب الصالحين، وشعار المتقين، بل هي من أعظم آثار العلم النافع، وما قيمة العلم إذا لم يورِث للعبد خشيةً من الله، ومن الوقوف بين يديه!

قال قبيصة: ما جلستُ مع سفيان مجلساً إلا ذكرتُ الموت، ما رأيت أحداً كان أكثر ذكراً للموت منه!

ويقول تلميذه ابن مهدي: كنا نكون عند سفيان، فكأنه قد أُوقف للحساب، فلا نجترئ أن نكلّمه، فنعرض بذكر الحديث، فيذهب ذلك الخشوع، فإنما هو حدثنا .. حدثنا.

وقال حفص بن غياث: كنا نتعزى عن الدنيا بمجلس سفيان.

ويبين رحمه الله سبباً من أسباب الغفلة عن الآخرة فيقول: مَن سُرَّ بالدنيا؛ نزع خوف الآخرة من قلبه!([5])

3 ـ العبادة:

العبادة زادُ طالب العلم، ومن نظر في سِيَر الأئمة الذين جعلهم الله تعالى منارات يُهتدى بها؛ فإنه سيجد أن القاسم المشترك بينهم هو العناية بجانب التعبد، وهو -كما سبق- مِن أعظم آثار العلم:

قال يحيى القطان: ما رأيت رجلاً أفضل من سفيان، لولا الحديث كان يصلي ما بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فإذا سمع مذاكرة الحديث ترك الصلاة وجاء.

وقال علي بن الفضيل: رأيت الثوري ساجداً، فطفت سبعة أسابيع قبل أن يرفع رأسه.

ويقول الصقر السدوسي: استأذنت على سفيان فأذن لي بعض أهله، فدخلت عليه وهو يقول: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾[الزخرف: 80] ثم يقول: بلى يا رب! بلى يا رب! وينتحب، وينظر إلى سقف البيت ودموعه تسيل، فمكثت جالساً ما شاء الله، ثم أقبل إلي، فجلس معي، فقال: مذ كم أنت ههنا؟ ما شعرتُ بمكانك!([6])

4 ـ الحرص على اتباع السنة:

وهذه شيمة طالب العلم -فضلا عن العالم- وبذلك يبارك للإنسان في علمه:

قال عبدالرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملتُ به، ولو مرة.

5 ـ عنايته بأمر النية والإخلاص:

سئل الإمام أحمد رحمه الله: بم بلغ القوم ما بلغوا؟ قال: بالصدق!([7])

وهكذا كان سفيان -نحسبه كذلك والله حسيبه-.

والعبد كلما زاد علمُه بالله، وبمداخل النفس وحظوظها؛ كان خوفه من نيته أكبر وأعظم!

يُعَبّر سفيانُ عن خطر النية، وتقلّبها على الإنسان بقوله: ما عالجتُ شيئاً أشد عليّ من نيتي، مرة علي، ومرة لي!

وقال رحمه الله: السلامة في أن لا تحب أن تُعرَف.

وقال ابن المبارك: قال لي سفيان: إياك والشهرة، فما أَتيت أحداً إلا وقد نهى عن الشهرة.

وبالجملة -أيها الإخوة-: فمن صدق مع الله، وعلم الله منه أن في ظهوره نفعاً للأمة أظهره الله ولو اختفى في جحر ضب، ومن أظهر نفسه، وصدّرها المجالس -وفي نيته الدنيا- ردّه الله إلى قدره الذي يليق به، ولو صُدّر في المجالس زمناً، أو تحدثت به الألسنة دهراً!

بقي أن نعرف أن هناك امرأة كان لها الأثر الكبير على هذا الرجل في هذه الصفة العظيمة (صفة الإخلاص) وهي أمّه .. نعم أمّه التي كانت تقول له: اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي، فإذا كتبت عدة عشرة أحاديث، فانظر هل تجد في نفسك زيادة فاتبعه، وإلا فلا تتعنّ.

6 ـ حرصه على طلب العلم وصبره، وإفادة الناس طول حياته:

والصبر من أعظم صفات طالب العلم الموفق، وما فات كثيراً من الطلبة ما فاتهم -من العلم والإمامة في الدين- إلا التعجل في تحصيل العلم، وثمرته!

قيل لسفيان رحمه الله: إلى متى تطلب الحديث؟ قال: وأي خير أنا فيه خير من الحديث، فأصير إليه؟ إن الحديث خير علوم الدنيا.

وهذه قصة -تعبِّر عن هذا المعنى بوضوح- يرويها تلميذُه البار يحيى القطان:

قال يحيى رحمه الله: مات إسماعيل ابن أبي خالد -وأنا بالكوفة- فجلس إلى جنبي سفيان ننتظر الجنازة، فقال: يا يحيى! خذ حتى أحدثك عن إسماعيل بعشرة أحاديث، لم تسمع منها بشيء، فحدثني بعشرة، وكنت بمكة وبها الأوزاعي، فلقيني سفيان على الصفا، فقال: يا يحيى! خرج الأوزاعي الليلة؟ قلت: نعم، فقال: اجلس، لا تبرح حتى أحدثك عنه بعشرة لم تسمع منها بشيء، قلت: وأي شيء سمعت أنا منه؟ فلم يدعني حتى حدثني عنه بعشرة أحاديث، لم أسمع منها بواحد.

7 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

لقد اشتهر الإمام سفيان بهذا الباب شهرة عظيمة، حتى إن كل من ترجم له ذكره بهذا، وله في ذلك مواقف مشهورة، ومنها: أن سفيان قال مرةً: إني لأرى المنكر، فلا أتكلم؛ فأكاد أبول دماً.

وأحدنا اليوم ربّما مرّ بمنكر من المنكرات أو سمع به، فلم يتضايق فضلاً أن يقفّ شعره، أو يتكدر -والله المستعان-.

ويقول شجاع بن الوليد: كنت أحج مع سفيان، فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ذاهباً وراجعاً.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية

الحمد لله ... أما بعد:

وبعد حياة حافلةٍ بالعطاء امتدت نحواً من 64 سنة؛ يموت سفيان رحمه الله، ولموته قصة لا تخلو من عبرة، رواها تلميذه ابن مهدي رحمه الله فيقول: مرض سفيان بالبطن، فتوضأ تلك الليلة مراراً، حتى إذا عاين الأمر، نزل عن فراشه فوضع خده بالأرض، وقال: يا عبدالرحمن! ما أشد الموت! ولما مات غمّضته، وجاء الناس في جوف الليل، وعلموا.

ويقول ابن مهدي إن سفيان لما طالت علّته، فقال: يا موت! يا موت! ثم قال: لا أتمناه، ولا أدعو به، إنما أقول ما أقول لشدة ما نزل بي من الموت، الموت -واللهِ- شديد! وجعل يقول: أوه...، أوه من الموت، وكان لا يقول: أوه، ولايئن إلا عند ذهاب عقله، ثم قال: مرحباً برسول ربي، ثم أُغمي عليه، ثم أفاق، فقال: يا عبدالرحمن! اذهب إلى حماد بن سلمة، فادعه لي، فإني أحب أن يحضرني، وقال: لقنّي قول: لا إله إلا الله، فجعلتُ ألقنه، قال: وجاء حماد مسرعاً حافياً، فدخل وقد أُغمي عليه، فقبّل بين عينيه، وقال: بارك الله فيك يا أبا عبد الله، ففتح عينيه، ثم قال: أي أخي! مرحباً، ثم قال: يا حماد! خذ حذرك، واحذر هذا المصرع!([8])

هذه يا عباد مقتطفات من سيرة هذا الإمام الجليل، تُذكَر بهذا الاختصار لتدلّ على ما سواها من المناقب والفضائل، عسى اللهُ أن يجعل فيها أسوةً وقدوةً لأجيالنا الناشئة، ولعل الله يُخرِج من شبابها من يتصفون بصفات العلماء الربانيين، الذين يبلُغون منزلة الإمامة في الدين.

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد...

 



([1]) أُلقيت في 20/5/1435هـ.

([2]) جامع بيان العلم وفضله (1/ 509).

([3]) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/ 240).

([4]) الحلية 6/387.

([5]) انظر هذه الأقوال في ترجمة سفيان الثوري من سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/ 229-279).

([6]) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا (ص: 207).

([7]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2/ 7).

([8]) كل النقولات التي لم نذكر مصدرها انظرها في ترجمة سفيان الثوري من سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/ 229-279).