الترغيب في المبادرة إلى الوصية الشرعية

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2014-06-28 02:39:42

الترغيب في المبادرة إلى الوصية الشرعية، والتنبيه على بعض مصارفها(1)

 

الحمد لله منّ علينا بالأموال وجعلها قياماً للناس في مصالح الدنيا والدين، ونظّم لهم اكتسابها وتصريفها والتصرف فيها تنظيماً عادلاً مستقيماً لا يضاهيه شيء من النظم والقوانين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ملك يوم الدين،ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى على جميع الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً([2]).

أما بعد:

فمن رحمة الله تعالى بعباده أن فتح لهم أبواباً من الخير تبقى لهم، بيّنها النبي  صلى الله عليه وسلم بقوله -كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه-  ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).([3])

ولعل من أعظم ما يضبط ويعين على تحقيق هذه الأعمال: الوصيةُ الشرعية، التي حث عليها الشرع،ورغّب في كتابتها،وحذّر من الجور فيها.

ولما كان كثيرٌ من الناس -مع الغفلة، وربما الجهل- يفرط في هذا الموضوع المهم،كان لا بد من تذكير بشيء من أحكامها،حتى يكون المسلم على بيّنة من أمره فيما يأتي ويذر في هذا الموضوع المهم.

فالوصية -التي هي: التبرع بالمال بعد الموت- لها شأن في كتاب الله تعالى، تأمل قوله عز وجل: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾[البقرة: 180]، وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾[النساء: 11].

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين -وفي رواية: ثلاث ليال- إلا ووصيته عنده مكتوبة))، قال عبد الله بن عمر: ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، إلا وعندي وصيتي. متفق عليه، واللفظ لمسلم.([4])

قال الإمام الشافعي رحمه الله: من صواب الأمر للمرء أن لا تفارقه وصيتُه.([5])

ومن أعظم فوائد تحرير الوصية: امتثال الأمر الشرعي؛ براءة الذمة، وحماية الأموال، ورعاية القُصّر، إلى غير ذلك من الفوائد.

ومما ينبغي أن يُعْلم -أيها المسلمون- أن الوصية تجب في أحوال، وتستحب، وتحرُم، وتُكرَه، في أحوال أخرى:

فأما حال وجوبها: فعندما يكون على الإنسان ديون أو حقوق لا يعلم بها إلا هو وصاحبُ الحق، فهنا يجب عليه أن يكتب؛ لتثبيت الحق لصاحبه، ولقطع الخصومة التي تنشأ غالباً في مثل هذه الأحوال بسبب عدم قدرة صاحب الحق على إثبات حقه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

معشر الراغبين في استمرار أعمالهم بعد مماتهم:

وإذا كان الموصي غنياً، وذا جِدةٍ في ماله، وورثته مستغنون؛ فيستحب له أن يوصي بشيء من ماله، على ألا يتجاوز الثلث؛ ليكون صدقة جارية له بعد موته.

فإن كان الورثة محتاجون، والمال قليل؛ فيكره له أن يوصي بشيء من ماله، لقوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث سعد رضي الله عنه-: ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)).([6])

وهنا تبرز عظمةُ هذا الدين بضبط العواطف التي تحيط بالناس في مثل هذه الأحوال، ليوازن بين مصلحة الحي ومصلحة الميت، وليبين السبيلَ الأعظم أجراً، ولئن كان المرء يُؤجَر على كل كبدٍ رطبة، ولو كانت حيواناً، فكيف بالورثة الذين هم أحق الناس بمال مورِّثهم.

وليس هذا فحسب، بل إن الشرع حرّم صوراً من الوصية، وضابطها: وجود الضرر، ومن صورها:

1. الزيادة على الثلث: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الثلث، والثلث كثير))([7])، كما في حديث سعد السابق.

2. أن تكون لوارث: فإن الله تعالى قال بعد آيات المواريث: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾[النساء: 13، 14] ثم جاءت السنة المطهرة لتقطع الطريق على المستدركين على قسمة المواريث باجتهاداتهم؛ في الحديث المشهور الذي رواه أبو داود وغيره بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث))([8]).

3. ومن صور الإضرار بالوصية -عياذاً بالله-: أن يقِرَّ بكلِّ ماله أو بعضه لغير مستحقٍّ، أو يُقِرَّ على نفسه بدَين لا حقيقة له؛ من أجل أن يمنع الوارث من حقِّه! أو يبيع شيئاً بثمنٍ بخسٍ، أو يبيع بيعاً صورياً، أو يشتري بثمنٍ فاحشٍ من أجل أن يضر بالورثة ويمنعهم حقوقهم أو يبخسها.

سبحان الله! كيف يتجرأ ذلك المخذول ليضار في وصاياه، وهو في حالة إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة؟! وفي حال يصْدق فيها الكذوب، ويتوب فيها الفاجر، وأي قسوة أشد من هذه القسوة! فنعوذ بالله من الخذلان([9]).

إذا تبين ذلك -أيها الإخوة- فعلى مَن أُوكِل إليه أمر الوصية أن يبادر إلى تنفيذها، والعمل بها، ويجب ذلك إذا حلّ زمن الموصى به، كدَين ونحو ذلك، ولا يحل للموصى أن يتساهل بالوصية -كما هو حال بعض الناس وللأسف-.

وينبغي لمن أراد الوصية أن يكتبها واضحةً في لفظها ومعناها، مجودةً في كتابتها، عادلةً في شهودها؛ من أجل أن تُحمد سيرتُه، وتُحفظ حقوقُه، ولا يبقى أهلُه من بعده في منازعات، ويلقى ربَّه وقد أدى ما عليه، وأبرأ ذمته، وابيضت صحيفتُه، وحسنت بإذن الله خاتمته، وخف في الآخرة حسابُه، ومن قصَّر فقد تعرض لحرمان الثواب، وأهمل في براءة الذمة.

وليُعلم -وفقكم الله-: أن وجوه البر كثيرة، مِن فقراء الأقارب غير الوارثين، وعمارة المساجد وخدمتها، وبناء الأربطة والمساكن للمحتاجين من أهل العلم والفضل والصلاح، وقضاء ديون المعسرين، والصدقة على المحاويج، والإنفاق على طلبة العلم، وتعليم القرآن، وسقي الماء، وتعبيد طرق المسلمين، وطبع الكتب المفيدة ونشرها، والوصية بالحج والأضاحي عن نفسه وغيره، وهذا الباب بفضل الله واسع، ووجوه البر فيه لا تنحصر.

وإن من التحجير الذي لا ينبغي، وقد درج عليه كثيرٌ من الناس عندنا أن يحصروا الوصية في أمورٍ غيرُها أهم منها بكثير، فترى بعضَهم يَقصُر وصيته على أضحية، أو عشاء والِدَين في رمضان، وهذا وإن كان يؤجر عليه المسلم إلا أن نفعه ضعيف وقاصر، خاصة في هذا الزمان الذي اتسعت على أكثر الناس أرزاقهم.

وكم هو جميل وحَسَن أن نسأل ونستشير غيرَنا من أهل العلم والعقل في موارد أعظم للأجر، ونفكر في سُبُلٍ يمتد أثرُها، ويعظم نفعها، خاصة مع ازدياد حوائج الناس، وتنوّع مصارف البِر في هذا الزمان.

وإني ضارب لكم مثلاً أملاه الواقع: ذلك أن شريحة من المجتمع ليست بالقليلة -سواءٌ كانت من المواطنين أو من إخواننا الوافدين- لا تقدر على دفع تكاليف العلاج اللازم لبعض الأمراض التي تنوعت وكثرت في هذا العصر، وقد وقفت بنفسي على حالاتٍ من ذلك، فأسألكم بالله: أيهما أكثر نفعاً، وأعظم أثراً، عَشاء في رمضان ربما كلّف أكثر من ألف ريال! يوضع لأناس شباع لا يجد أحدُهم مكاناً للأكل والشراب، أم دفع قيمة ذلك الطعام لجمعية البر مثلاً، أو للمستشفى الخاص لتنفق منه على علاج المرضى الذين لا يجدون ما ينفقون، وربما فاضت أعينهم من الدمع والألم حزناً ألا يجدوا ما ينفقون؟!

إن ما يسمى بالوقف الصحي لتَدعو إليه الحاجة بل الضرورة، وإن أجره لعظيمٌ عند الله يومَ أن يكتب اللهُ على يدك تفريجَ كربة مريض، وتنفيس لوعةِ المرض عنه، وتخفيف شدة الألم الذي أصابه بوصوله إلى العلاج عن طريق مالك الذي أوصيتَ به!

ألا فاتقوا الله -أيها المسلمون- وقوموا بما أوجب الله عليكم، أدوا الحقوق، واحفظوها قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، وإياكم والتفريط فيها؛ فإن الإنسان لا يدري متى يفجأه الأجل، وتذكروا وصيةَ نبيكم  صلى الله عليه وسلم لكم، التي نقلها ابن عمر بقوله: أخذ رسول الله  بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"، ولقد قال الله في أقوام: ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾[يس: 49، 50]

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ،أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فهذان تنبيهان مهمان يتصلان بموضوع الوصية، أجملهما فيما يلي:

التنبيه الأول: يظن أكثرُ الناس أن الوصية بالثلث أفضل، وهذا في الواقع وهمٌ! فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ألحّ عليه سعدٌ رضي الله عنه بأن يأذن له أن يوصي بماله أبى عليه، ثم بنصفه أبى عليه، ثم لمّا قال: "بثلث مالي" قاله له صلى الله عليه وسلم: ((الثلث، والثلث كثير)).

ولقد فهِم هذا أكابرُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أسبق الناس إلى الإيمان والبذل والإنفاق: أبو بكر رضي الله عنه، لم يوصِ إلا بخمس ماله فقط، وقال: "أرضى من مالي بما رضي الله به من غنائم المسلمين"([10]).

وهذا حَبر الأمة، وترجمان القرآن يقول -كما في الصحيحين-: لو أن الناس غضّوا من الثلث إلى الربع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((الثلث، والثلث كثير)).

وقد حكى أبو عبدالرحمن السلمي رحمه الله عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يكرهون أن يوصي بالثلث، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والثلث كثير)). ([11]).

وقال شيخنا ابن باز رحمه الله: "فإذا أوصى الإنسانُ بالربع أو بالخمس كان أفضل من الثلث، ولا سيما إذا كان المال كثيراً، وإن أوصى بالثلث فلا حرج"([12]).

التنبيه الثاني:  ينبغي للموصِي أن يوسّع في وصف المصرف، بحيث يقول في عبارة وصيته –مثلاً-: (أوصي بخمس مالي يُصرَف في أعمال البر فيما يناسب الزمان والمكان، والأحوال والأشخاص، ويتولى ذلك فلانٌ حسب ما يراه مناسباً ونافعاً)، نقول هذا؛ لأن بعض الموصين -هداهم الله- يحجِّر كثيراً في وصيته! حتى لا يكاد يُستفاد من الوصية إلا في نطاق ضيق جداً.

وهناك تفاصيل يطول ذكرها في هذا الموضوع، يحسن السؤال عنها، وكم هو حسنٌ إذا أراد الواحد أن يوصي أن يذهب لطالب علم أو عالم يُعيْنه على كتابة الوصية على الوجه الشرعي، وقد يشير عليه برأي غائبٍ عن ذهنه، أو يدله على مصرف أحسن مما في ذهنه.

ختاماً .. ما أجمل أن يجد الأبناءُ في وصية والدهم وصيةً كتلك الوصية التي أوصى بها يعقوب عليه السلام بنيه حين حضرته الوفاة: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[البقرة: 133].

إنها وصايا قد لا يدرك كثيرٌ من الآباء أثرَها العظيم على نفوس أبنائهم وسلوكهم طيلة حياتهم.

رزقنا الله وإياكم الفقه في دينه، والبصيرة فيه، كما نسأله تعالى أن يطرح البركة فينا جميعاً، وفي ذرياتنا وأموالنا، وأن يجعلنا وإياكم ممن امتد أجرهم وثوابهم بعد مماتهم.

 

 



([1]) ألقيت في 16/3/1430هـ.

([2]) تضمين من مقدمة خطبة لشيخنا في الموضوع ذاته، من ديوان خطبه 4/238.

([3]) مسلم ح(1631).

([4]) البخاري ح(2738) مسلم ح(1627).

([5]) الترغيب والترهيب. لقوام السنة (3/ 265).

([6]) البخاري ح(1295) مسلم ح(1628).

([7]) البخاري ح(1295) مسلم ح(1628).

([8])  قال ابن حجر في "الفتح" (5/372) عن أحاديث الباب: "ولا يخلو إسناد كل منها عن مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلاً، بل جنح الشافعي في "الأم" إلى أن هذا المتن متواتر، فقال -أنا نقلت النص من الأم (4/108) -: "ورأيت متظاهراً عند عامة من لقيت من أهل العلم بالمغازي أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال -في خطبته عام الفتح-: ((لا وصية لوارث))، ولم أر بين الناس في ذلك اختلافاً".

([9]) تضمين من خطب ابن حميد.

([10]) سنن البيهقي الكبرى 6/270، وقد تصحف في المطبوع: (لا أرضى...) وهو خطأ.

([11]) انظر: السنة لابن نصر المروزي: (195) ح(274).

([12]) الفتاوى الإسلامية للمسند 3/35، 38.